+ A
A -

كلما أقبل تشرين، أحد الشهور المفضلة لأمثالي من المخلوقات الشتوية، أتذكر واقعة حضوري حفلة الموسيقار «يانني».
في شتاء 2003، سمعت عن التحضيرات التي تجرى لإحياء حفلة «لجارة القمر» بالدوحة، وكنت ومازلت مولعة بهذه الـ«نهاد حداد»، وبوقفتها على المسرح لا تستعرض سوى صوتها الذي يلازمني حتى بمناماتي، حتى صار غناؤها حلماً تمنيت سماعه عن قرب، لا مسجلاً.
وجدت التذكرة بـ 600 ريال قطري، وكنت وزوجي حينها، ندفع زُهاء 1200 ريال شهرياً، لإيجار شقة صغيرة كنا نقطنها.
كنت أعمل، وقادرة على شراء تذكرتيْن، لكني عجزت عن مجرد طرح فكرة حضور حفلة لفيروز؛ خشيةَ أن تضغط أمنيتي على ميزانية الأسرة، وليقيني المسبق بالرفض. ارتديت الـ«بوكر فيس» وواريت حلمي ثرى ذهني مع أشقائه من جثث الأحلام المدفونة بذات الذهن المقبرة.
ثم جاءني زميل بيروتي، من أصحاب «بونجورين، بونسوارين، صحتين، عافيتين» قال: كيفك، مِنيحة، سمعانا عن حفلة فيروز، معي تذكرتان، شو؟
وربما من يعرفني يدرك عدم فهمي بالتلميح، ومدى إغراقي في نوع متبّلد، غير رائج، من السذاجة غير المبررة. وعزائي أني برئت منه نهائياً.
على أن وقتها، سألته: تقصد تذكرتين لي ولزوجي؟ أجاب: يي! لا، أقصد أنا وأنت!
فتّحت عيني مندهشة من جرأته واعتذرت: لا، أنا متزوجة.
ثم عاتبتني نفسي -علماً بأني تخصص جلد ذات بأثر رجعي-
فقلت: كان عليّ أن أبدو أكثر حدةً في ردي، فكيف يجرؤ؟ وحتى لو لم أكن متزوجة، فأنا لا أخرُج لمواعدة الرجال.
وهبْ أنه كان ينتوي إهدائي تذكرتين لي ولزوجي، فكان يتحتم الرفض.
يا الله، لكم تضع أمامنا من اختبارات تصهر نفوسنا خيبةً أو نجاحاً.
بغباء معهود، جلست أمام زوجي، واعترفت كمسيحية ورعة تبوح للقس بآثامها في جلسة الاعتراف، ورويت الواقعة مذ بدايتها، وحتى اعتذاري للبيروتي.
لا داعي لذكر هياج زوجي، لكنه بعدما استرد هدوءه، قال: تأكدي، أنك لن تقابلين ذلك المتحرّش الذي يصرّح لفريسته:«نويت التحرش بك بنظرتين، مجاملة أو دعوة، عليك بتعلم قراءة لغة الجسد». وجدت زوجي محقاً، فاشتريت كتاباً عن لغة الجسد، وبرئت من مرض عدم الفهم بالتلميح، لكن لليوم لم أبرأ من تلكم «الـفيروز».
مر الزمان، وبدّل الله حال المبتدئ لحال خبره أفضل، بُعيد رحلة كفاح كَسِواي من البشر. وحدث أن عاد زوجي من عمله في يوم ربيعي لعام 2013، بطاقة إيجابية قلما أعهدها فيه. وأخبرني أنهم أعلنوا في الصحف عن حفلة «ليانني» وأنه اشترى تذكرتين، مؤكداً حتمية جاهزيتي في الرابعة، حيث سيبدأ الحفل الموسيقي في الخامسة.
تحضّرت قبل الموعد؛ خشيةَ إفساد بهجته التي نادراً ما ألمحها على وجهه، حتى أنه تأنّق ليلتها كما فتح لي باب السيارة، وجلس يحاكيني عما يستعدّ لسماعه من SANTORINI وحتى FORBIDDEN DREAM، وصلنا للقاعة، فاتضح أن الحفل سيبدأ في الثامنة، وأن زوجي تحايل بخداعي خشيةَ تأخيري. وقد استسغت كُذبته، فلها مبرراتها، وقد أسرتني حالة الطفولة التي تصرّف بها.
ما أن بدأ الحفل، حتى شعرت بانقطاع الصوت عمن حولي، كان زوجي والجمهور يسمع «يانني»، وكنت وحدي مع دموعي المتحجّرة بمُقلتي، ننصت لسفيرة النجوم. تخيلتها على المسرح بهيبة طلتها، وسمعتها تشدو أغانيها الخالدة، بصحبة عاصي:
أسامينا، نسمت من صوب سوريا، عالطاحونة، حدثني العندليب وحتى «لملمت ذكرى لقاء الأمس».
نعم، لملمت ذكرى أغاني الأمس وعشت وهم أني اقترابي فيروز بُعيد العرض، وأنها وقعت لي على «أوتوجراف».
أوه! يبدو أني نسيت أنه مضى عهد «الأوتوجراف»، حيث يقوم المعجبون حالياً بالتقاط «سيلفي» مع نجمهم المفضل. فليكن. إذن، سيلفي وهمي مع فيروز.
ما أعذب أحلام يقظتنا، ولكم ترهقنا كونها توقظ فينا تنبيهاً بضرورة تحقيقها.
كان يبتسم، وكنت بجانبه أمسح من وجهي غبار الحنين لحلم ضاع على المسرح. أعجبني تحقيقه لهدفه، واليوم وعيت درس عدم التهاون بتحقيق الأحلام، وأقول: اركضوا وراء أحلامكم، وعينكم عليها ساهرة.
بقلم : داليا الحديدي
copy short url   نسخ
14/10/2017
3760