+ A
A -
شيء مِن الحُبّ يَكفي لِتَشُدَّ الطريقَ إلى ذاتِكَ..
وشيء مِن التَّمَرُّد يُغْني عن أن تَنْأَى عن مَلاذاتِكَ..
غَيْر أن بين الذات والملاذات سَماءً تُمْطِرُ حياةَ واحدة من كُبْرَيَات الكاتبات الفرنسيات مَطَرَ الشوق إلى الروح التي تُسافر في لَيْل الْمَشاعر على غير اشتهاءات مَن كانوا يُقاسمونها الزمنَ والمكان وما نالت من أكثرهم سِوى الخذلان..
سَفَر في الْحُلم الأنثوي الهامس برغبات امرأة تُشَتِّتُ انتباهَ عيون القلب (بقدر ما تُلَمْلِمُ هي القلوبَ التَّوَّاقةَ إلى دِفْءِ ملقاها) يَسْتَدْرِجُنا إلى خيمة الروائية أمانتين أورور دوبان AMANTINE AURORE DUPIN الشهيرة عند مُتَسَلِّقِي قِمَّة الأدب الفرنسي (وما وازاه) باسم جورج ساند GEORGE SAND..
جورج ساند تَفتح بابَ التَّمَرُّد على مصراعيه لِتتسللَ إلى العالَم كما تُريد أن تَراه هي لا كما يُريد هو، ومن ثمة تُلَوِّن لوحةَ أُفُقِ انتظارها بلون الأحلام، الأحلام تلك التي قد تَسقط وتلك التي لا تَسقط..
بين الأحلام والكوابيس بدايةُ التأسيس لقطعة من التاريخ، التاريخ الذي تُحاول جورج ساند أن تُرَتِّبَه كما يَتِمُّ ترتيب مُؤَثِّثات رُقْعَة شطرنج. إنه تاريخ الأدب الفرنسي كما بَدا جَلِيّا في أكثر الكتابات الروائية، ومنها حَظُّ جورج ساند مِن المغامرة الروائية، ناهيك عن موهبتها في كتابة المذكرات وحَقِّها في أدب الرسائل..
سَيِّدَةُ الْجُرْأَة تَكونُها المرأةُ المتمردة أمانتين، أمانتين التي كان يَطيب لها التَّواري خَلِفَ قَميصِ رَجُل قد لا نَعْرِفُ حقيقتَه، لكن الأَمْرَ لا يَفوتُ أمانتين..
وهنا قد يَتساءَل أكثر من متسائِل:
-هل كانت أمانتين لوسيل أورور دوبان تَجِدُ شيئا من الْحَرَج خَوْفَ أن يَضبطها القُرَّاءُ متلبسة بِتُهْمَة الكتابة، فَرَأَتْ مِن الحكمة أن تَرفعَ عن نفسها الْحَرَجَ لَمَّا فَكَّرَتْ في أن تُعَلِّقَ الجريمةَ (جريمة الكتابة) على مِشْجَب الرَّجُل، ومِن ثَمَّ الانتصار للاسم الْمُسْتَعار؟!
- هل كان اسم «جورج ساند» يُوحي بأحدث صيحة في موضة الكتابة وقتئذ مما استدعى أن يَكون لِكُلّ كاتِب(ة) اسم شُهرة كما يَفعل الْمُلَقَّبُون بالنجوم في سماء الفن؟!
- ما حقيقة اسم الشهرة أو الاسم المستعار الذي يَهْفُو إليه الكاتب(ة) وكيف يُمْكِنُه أن يُفَسِّرَ هذا الاختيار؟!
- إلى أَيّ درجة نَتَّفِق على أن الاسمَ المستعار كان يَتَضَمَّن الاعترافَ بالتَّحَرُّر على مستوى التَّوَجُّهات والأفكار؟!
- هل يُمْكِن أن يُعْزَى الإِصْرار على الاسم المستعار إلى رَغبة الكاتب(ة) في الهروب من مُضَايَقات اجتماعية أو حِسابات سياسية قد تُقَيِّدُ حُريةَ الكتابة عنده وتَحدّ طموحَه إلى الانعتاق من أَسْر الإكراهات؟!
- كيف نَتَصَوَّر (أو نُصَدِّق) أن كاتبةً تُقيم في مجتمع غَرْبِي مُنفتِح، لا شيء يلجم لسانَ حريته أو رغبته في التحرر، سَتُفَكِّر في الفِرار على عَرَبَة الاسم المستعار بعيدا عن اختلاس الأنفاس كما كان يَحْدُث للكاتبة العربية، غالبا، إذا سَلَّمْنَا بأن الحديثَ عن هذه الإكراهات يَتَعَلَّق مُباشَرة بالكاتبات العربيات اللواتي كُنَّ أو مَازِلْنَ يَتَخَبَّطْنَ في دوامة القمع والمنع، إما لاعتبارات اجتماعية وإما لاعتبارات سياسية أو دينية تَجْعَلُهُنَّ مَرفوضات في مُحيطِهِنَّ، وتُسَلَّط عليهن عَصَا التضييق عليهن وتَسْفِيه اجتهاداتهن..؟!
السروال والسيجارة لاَزَمَا أمانتين سَيِّدَةَ الإثارة، وكيف له أن يَتمَلَّصَ مِن وجودها هَارِباً مَن الْتَقَطَتْ عيناه طَلْعَ الحُسْن الذي يَشْهَد على جمالها الفتَّان وجاذبيتها الآسرة هي سليلة المجتمعات الأرستقراطية الفاخرة..!
فهل يَكون الأمرُ (مَيل أمانتين إلى التَّشَبُّه بالرِّجال) مَرَدُّه التَّمَرُّدُ والثورةُ على الأنوثة كما تَفهم الأغلبية؟!
هل كانت أمانتين تُحاول التخفيفَ مِن وَقع أنوثتها الصارِخة لِتُقاوِمَ أَيَّ إغراء يَحول دُون وصولها إلى ما كانَتْ تَطمح إليه في ظِلّ مَشْهَد زَمَكَاني يَتَسَيَّدُه الرَّجُلُ سَطوةً وحُضورا؟!
أَلاَ يَخْرُج الأمرُ عن طَيِّ لحافِ الأنوثة الذي سَبقَ أن افْتَرَشَتْه أمانتين لِيَستريح مِلءَ نُعومته غُرورُ الرَّجُل العازم على العُبور صُعودا إلى جَبَل الرغبة التي لا تَسْتَكِينُ قُبَالَتَها المرأةُ الْمُتَمَرِّدَةُ؟!
أم أنَّ الأمرَ لا يَعدو كَونه اعترافا بالمساواة مع الرَّجُل؟!
أم أنها ظروف الطلاق الذي تَجَرًّعَتْه أمانتين وعَلَّمَها كيف تَطْوِي فُستانَ الأُنْثَى وتُودِعُه في خزانة النِّسيان إن لم تَنْدَفِعْ (أمانتين) فَتُمَزِّقه لِتُلْقِيَ به في مزبلة الماضي؟!
الطلاق دَرْس قَاسٍ تَحفظه المرأةُ عن ظهر قلب. الطلاق حَجَر يَرشق نَوافذَ قلبِ المرأة، وما أدراكَ ما يَكونُه قلبُ المرأة حين تُظَلِّلُه أشجارُ الإحساس الْمُرْهَف التي يَجْرِي على حافاتها نَهرُ الحنين..
الإحساسُ الْمُرْهَف يُمَرِّرُ في غربال عِزَّةِ النفس كُلَّ كلمة وكُلَّ همسة وكُلَّ موقف وكُلَّ فعل أو إشارة، مما يَجعل ردّة الفِعل (بالنسبة لأمانتين) تَقِفُ عند الرصيف الفاصل بين الموت والحياة..
حين تَخذلك الحياةُ جَرِّبْ حَظَّكَ مع الكتابة، فلن تَخذلكَ يقينا. ليس الكلام هنا لأمانتين، إنما لنا، لكن هل هذه هي الحكمة التي استقَتْها أمانتين من تجربتها في الحياة؟!
لِنُسَمِّ الطلاقَ يا صديقي تجربة الدمار الشامل إذا استسلَمَتْ له المرأةُ، ولْنَقُلْ إن الحياةَ تحت سَقْف مُهَدَّد بالسقوط (لكنه يَسمح بانتصار شريك الحياة الفارّ) لا تَختلف عن الوقوف زمنا طويلا على رِجْل واحدة تحت مظلَّة مثقوبة..
أما صاحبتنا المتمردة أمانتين، فإنها لم تُشهِرْ منديلَ الاستسلام لما انْطَفَأَ مصباح الرَّجُل كما عَرَفَتْهُ زَوْجاً، بل أكثر من هذا صَيَّرَتْ طَلاقَها جِسرا منه تَعْبُر إلى عالَم الذُّكور هيئةً وتَفكيرا..
أمانتين الكاتبة الروائية والناقدة الأديبة هي نفسها سَيِّدَة الرومانسية التي اسْتَدْرَجَتْ أصابعَها إلى الخطيئة التي يَحْلُو معها سَمَر عُشَّاق الحَرف، خطيئة الكتابة..
ولذلك أصبحَتْ أمانتين ماهرة في فُنون السباحة تحت مِياه مُحيط الرومانسية، وبِقَدْر ما جَرَحَتْها التجارب الْمُرَّة كانَتْ تُداويها مُلوحة بحر الْحُبّ على مستويين:
- على المستوى الْمُتَخَيَّل: في ما خَلقته من علاقات رَبطتْ بين أبطال أكثر من حياة على الوَرَق..
- على المستوى الواقعي: على امتداد ما جَرفها إليه تَمَرُّدُها من علاقات جانبية عاشَتْها حقيقةً مع أدباء ونُجُوم زمنها مثل ألفريد دو موسيه وجول ساندو ونجم الموسيقى شوبان..
قراءة عابرة في عناوين مُؤَلَّفات أمانتين تَجْعَلُكَ تَفهم أن مَسارَ الكاتبة كان حافِلا بالنجاح الذي يُخرِسُ أَلْسِنَةَ الخيبة التي تَعِيشها الذات بالموازاة:
- ليليا (LELIA).
- إنديانا (INDIANA).
- فاديت الصغيرة (LA PETITE FADETTE).
- مستنقع الشيطان (LA MARE AU DIABLE).
- كونسويلو (CONSUELO).
هي فقط شَعرة فاصِلة بين ثورة الْحُبّ المتدفِّق في شرايين الروح الهائمة في ملكوت العشق وثورة الْمُناداة بالحرية وإنصاف أهالي الأَرْياف.. والبطلة الواحدة التي حَارَبَتْ بإرادة صامدة مُتَمَرِّدَةً على القاعدة لن تَكُون بأُخْرَى سِوى أمانتين، أمانتين العاشقة والأخت الكبرى لِمَنْ ضاعَتْ أصواتُهم في الطريق إلى الْحَقّ..
مِن أَمَاسِيّ الْحُبّ (ج. أُمْسِية) الحالِمة بعُيون الْمِلاح إلى أَصْباح الرِّيف (ج. صَباح) العازِمة على حِفظ ماء وَجْه الفَلاَّح كان صَوتُ أمانتين ثروةً وثورةً:
- ثروة في القلب الذي عُيونُه لا تَعْمَى..
- ثورة ضِدّ صُناَّع الفَساد ورُعَاة الظُّلْمة..
كانَتْ تِلك أمانتين، النجمة الْمُضِيئة في سماء الأَدب الفرنسي.

بقلم :د. سعاد درير
copy short url   نسخ
14/10/2017
2879