+ A
A -
عدت للخرطوم من بعد طول اغتراب، فرح بعودتي إلى السودان من أفرحته العودة ولم يتقبلها لي من تراوده أحلام الفرار من السودان في زمن المعيشة الضنك، الزؤام، وحزن في الدوحة من أحزنه الرحيل، وأنا.. أنا بين الاثنين في تنازع: تغمرني الفرحة أحياناً، وأحياناً يستبد بي نوع من الحزن الغريب.. لكن، تبقى تلك قصة أخرى!
حين تعود إلى المكان- أي مكان- من بعد اغتراب، يبدو المكان الذي كنت جزءاً منه وكان جزءا منك، غريباً.. وتبدو أنت في المكان غريب الوجه واليد واللسان، وتلك حالتي الآن في الخرطوم.. وتلك أيضا قصة أخرى!
أنا في الخرطوم الآن «حضور» و«زوال». وما بين الهلالين أستعيره الآن من المغني السوداني الفاهم جداً عبدالكريم الكابلي، وقد عايشه يوماً، وجسده تجسيداً بليغاً لحناً وغناء بمفرداته المدهشة، وحنجرته المدهشة، وهو يتفرس في غربته هو.. وما أقسى غربة الفنان عن وطنه:
«قريب وبعيد. حضور وزوال»..
كان ذلك هو- الكابلي- ذات غربة..
وهأنذا، مثله.. وما أشد ضراوة الغربة في الوطن.
الوطن؟ من ذا الذي قال إن الوطن هو فقط تلك المساحة الجغرافية، التي شهدت صرخة ميلادك، ومراتع صباك، وزهو شبابك، ودقة قلبك بالحب لأول مرة؟
من ذا الذي قال بذلك.. ومن هو ذا الذي يقول بذلك في زمان العولمة الجغرافية هذا.. هذا الزمان الذي اتسعت فيه الأرض لمن ضاقت بهم الأوطان.. هذا الزمان الذي أصبح فيه الوطن هو ذلك الذي يطعمك من جوع ويأمنك من خوف، ويكسوك من لباس السترة أذرعاً وأمتاراً!
غريب أنا، والخرطوم غريبة.. لكن الغرباء وحدهم هم الذين لا تحجب المعاصرة لهم عيناً من سواد وبياض.. ولا تعمي لهم قلوباً.. وتلك للمرة الثالثة، قصة أخرى!
أحدهم، في الخرطوم، استغرب عودتي، مد لسانه، وهو يقول لي بين ابتسامة ساخرة وضحكة ساخرة: الحاجة الوحيدة التي ستتعلمها هنا هي الكلام.. وتبديد ما يسمى بالوقت بالجلوس إلى ستات الشاي!
الكلام؟
نعم. يكاد كل السودانيين يتكلمون عبر تلك الأجهزة التي قيل إنها ذكية، وتبلدت في السودان من كثرة الكلام!
قديماً كان الكلام، بدون فلوس.. لكن الآن في السودان بكم هائل من الفلوس، والرابح الوحيد هو شركات الاتصالات برغم شبكاتها الطاشة، مثل معظم السودانيين.
نائب مدير المركز القومى للمعلومات سؤدد محمد حسن كشف أن إمبراطورية شركات الاتصالات دخلها أكبر من عائدات البترول، وأن رؤوس أموالها أكبر من رؤوس بنوك السودان!
شركات بيع الكلام، إمبراطوريات مالية.. ومعظم الكلام هو الكلام الذي «لا بيودي ولا بيجيب» بحسب المثل السوداني الذي لم يجد حظه من التجسيد إلا في زمان «دقيت ليهو ودقا ليا».. وآه يا زمان الكلام البي الدق!
أنا الآن، جالس مثل غيري، أمام ست شاي.. وستات الشاي في الخرطوم مثل الهم على القلب. أنا الآن أنظر إلى هذه الظاهرة، والتي تعتبر بكل المقاييس أعظم ظاهرة في التاريخ لتبديد الوقت.. والوقت مال.. قيمة اقتصادية. هذه الظاهرة ألد أعداء «الشغل» ألد أعداء الانضباط في العمل.. ألد أعداء كل مفاهيم التنمية!
لرجل فرنسا التاريخي- ديغول- جملة عظيمة، وهو برغم كافة إنجازاته العظيمة، لم يتردد في أن يطلقها بلسان فرنسي مبين: قال: كيف يمكنك أن تحكم بلداً فيه 246 نوعاً من الجبنة؟
جملة ديغول لمعت في ذهني إلى درجة سودنتها وأنا أسأل من هنا الرئيس البشير: كيف يمكنك ياريس أن تحكم بلداً في عاصمته وحدها اكثر من مليون بائعة شاي أمام الدواوين الحكومية والمؤسسات العامة والخاصة والسفارات كل الشوارع.. بل والأزقة.. وكيف يمكنك أن تصنع وطناً وشعبك كله يتكلم.. وفاتورة الكلام اكبر من عائدات النفط؟
الخرطوم تتكلم..
وتتكيف شاي وجبنة.. وملعون أبوالشغل!
بقلم : هاشم كرار
copy short url   نسخ
03/10/2017
3170