+ A
A -
ما معنى أن يَغيبَ عن عينيك المعنى إن كانت لقلبك سُلطة القبض على المعنى؟!
ما معنى أن تَبخل العينُ بالنور إن كان القلبُ يجود به؟!
ما معنى أن يُغَلِّفَ الزمنُ مرآةَ عينيك بمنديل الليل حائلاً بينهما وبين نور الحياة إن كان قلبُكَ يَكفل لك أن تلتقط بعيونه «عيون القلب» ما هو أبعد؟!
سَنُصَيِّرُ الزمنَ قطاراً سريعاً يَعود بنا إلى الوراء قليلاً لِنَقِفَ عند محطة بوينس ايرس تحت سماء الأرجنتين، هنالك سيَقُودنا بورخيس في جولة.
إنه موعدنا مع خورخي بورخيس، خورخي ذاك مَن يَليق به أن يَنتشلنا من وطأة السحابة السوداء كتلك التي خَيَّمَتْ على عينيه لتزفَّنا في ضوء جنون اللحظات الساكنة فينا إلى مَعبد الحكمة..
كثيراً ما نشتهي أن يَنتصب الليلُ شجرةً وارفةَ الصمتِ لِنَستظل إلى فيئها فِراراً مِن الضوء الذي لا نَملّ من محاكمتنا له على البشاعة التي يَرسمها لنا، ولا ندري، حقاً لا ندري، كيف تُرفرف طيور الظلام لِتَحمل إلينا رسائل من مملكة الصمت، صمت الألوان، فتقول لنا فيها:
ما أحلى الضوء والألوان، الضوء الذي تَنشره عيون القلب، والألوان التي لا تُفتي فيها العينُ التي من اليسير أن تسمح للفوضى بالتسلل إلى نَسق بصري يُسيِّجه الكمال!
قد يَخونك عمى العين، لكن بَصَرَ القلب لا يَخون.. وهنا تَبدأ حكاية خورخي بورخيس.
صاحِبُنا خورخي تجرع الكأسَ نفسها، الكأس تلك التي شرب منها والدُه حين انكسرت مرآةُ عينيه، فتَفَرَّغَ لمناجاة ليل الحياة بعد أن أجبره العمى على التقاعد.. لكن هل سيَتقاعد عن الحياة من تُجبره رحلةُ العمى على التواري بعد أن تَحجبَ عنه ألوان الحياة؟!
قد يَكون من غير العدل أن تَعصف بنا الحياة لِتُلقي بنا بعيداً عن بَرّ النجاة، لكن من المؤكَّد أن من غير الحكمة أن نُغلق بابَ العقل والمنطق لِنُنصت إلى أيّ صوت يُعارض صوتَ نفسنا التي لم تَكُن يوما أمَّارة بالاستسلام.
هذا خورخي، واحد من الناس، أو لِنَقُل إنه كان واحدا من الْمُعذَّبين الذين جَلدَتْهُم الأيامُ، فكان من حظه أن أصيب بالمرض الوراثي نَفْسِه ذاك الذي سبق أن سرق الشمسَ من محيط العين، عين والده، وجعل الإحساس بالحياة يَسبح غاربا كما تسبح الشمسُ كل هُروب.
الدرجاتُ القُصوى من ضُعف النظر قادَتْ كاتبَنا إلى السقوط في حفرة العمى التي لا يَحسب حسابَها كاتِب، وما أدراك يا صديقي ما يَكونُه كاتب تَقتاتُ روحُه من عمل الكَنس الذي تُزاولُه عيناه مَسْحاً للسطور تلو السطور.
خورخي الذي عُرِفَ بِخَجَلِه الشديد إلى درجة اصطدام الحروف أثناء عملية مُرور الكلمات وَجَدناه يَنتَصر على التحديات وهو يتسلق سُلَّم الإرادة، فإذا به يَنجح في مواجهة الآخرين ويتوجه إليهم بمحاضَرات جعلتْه يَضمن مقعدا في الجامعة كأستاذ محاضِر..
أمَّا الكتاب، فلم يَنْأَ عن الشيخ العارِف الذي يَسكنه ويُلَقِّنُه في صمتٍ فَنَّ الكلمة. لذلك وَجَدْنَا خورخي مرة أخرى يَستعين بمن لا يُقَصِّرونَ في السهر على قراءة الكتب له وتشجيعه على نقل أفكاره إلى الورق..
علاقة عشق قديمة تلك التي رَبطتْ بين خورخي وكيان المعرفة، فإلى مكتبة والده كان خورخي يَعشق الهروب، وفيها كان يَلذّ له أن يُطارد بناتِ الأفكار ويَصطاد المعنى ويَهيم بحثا عن ذاته التَّوَّاقة إلى عُبور جسر المعرفة والفِكر بِقَدْر ما يَهيم شوقا إلى أن يُجَرِّبَ السباحةَ في بحر الكتابة شعرا وقصة ومسرحا ونقدا وما إلى ذلك..
كاتبنا خورخي كان كاتبا وابنا لمشروع كاتب لم يَكتمل، مع أن إحساسَ الأب (المحامي والباحث في علم النفس) بنبض القلم ودفء الكُتُب أَلْهَمَه الشيءَ الكثير ومَهَّد لاكتشاف قُدراته وَمَلَكاته الفكرية، وأَقَلّ ما يُقال هنا عن الإرث المعرفي لأبيه هو التاريخ الأدبي والفكري الْمُنْدَسّ بين دفَّتَيْ أكثر من كتاب ضَمَّتْهُ مكتبتُه.
مغامَرات البدايات تَقول إن رياحَ الإكراهات تَجري بما لا تَشتَهي سُفُن الهوى، هوى النفس والروح، ولذلك كان على خورخي أن يُقاوِمَ في زمن مُبَكِّر استمالةَ عالَم الكُتُب له، لماذا؟! لأنه كان قد فَقَدَ المظلَّةَ الدافئة التي كانت تَحميه وتَقيه بَلَلَ الأيام..
الفَقْدُ يُلْحِقُ بكَ من الخسائر ما قد تُلحِقُه بكَ هَزَّاتُ أرضٍ غاضبة، ولذلك لَمَّا فَقَدَ المسكين خورخي أباه وَجَدَ نَفسَه مُجبَراً على البحث عن عمل.. لكن هل يَنسى خورخي عِشْقَه للثقافة والمعرفة؟!
هل كُنَّا لِنُصَدِّقَ أن يَكون حُبُّ الكِتاب قاتلاً أو يَكاد؟! هذه حقيقة أخرى تُضْمِرُ وَلَعَ خورخي بالمعرفة وشَغَفَه بالمطالعة.. ولْنَنْظُرْ كيف يُمكِن أن يُصبِح الْحُبُّ الْمَدْخَلَ إلى الهلاك أو الطريقَ إلى الجحيم..
تقول قصة الحياة إن عودة ميمونة كانت تلك التي ظفر فيها خورخي بكتاب جديد سَحره سِحرا قبل أن يَلتحق بغرفته ويَتهيَّأ للقراءة..
وماذا حصل؟!
لا شيء سوى أن تَصفُّحَ الكتاب شَغَلَ صاحبَه عن أن يَنتبِهَ إلى النافذة المفتوحة التي ألحَقَت الضرر برأسه وأَدْمَتْه قبل أن تَحكم عليه بملازمة المستشفى وعدم مفارقة سرير الكوابيس التي سكنَتْهُ منذ بدأَتْ معاناته مع الغيبوبة ورحلة الهلوسة..
فهل كانت هذه المحنة تُشكِّل له بدايةَ النهاية، نهايته؟!
قد يَتَصوَّرُ مُتَصَوِّرٌ أن هذا ما حدث بالفعل، وأكثر من هذا، لكن الحقيقةَ تَقول إن خورخي كان ذكيا حتى في تَعامله مع الْمَرَض وفي إدارته للأزمة الصحية، لماذا؟! لأنه استفاد من كل هذا، وكانت المفاجأة أنه رَسَمَ لنا حُدودَ العالَم السريالي الذي غَطَّى مساحةً من خريطة الكتابة عنده بعد أن نَقَلَ إلينا مشاهد من تجربة عالَم الموت الذي داناه وهو على بُعد مَسافات من الحياة..
في بحر الحياة صَدِّقْ يا صديقي أن تجربةَ العَوْم مفتوحة على كل الاحتمالات، لكن ثِقْ بأن مُلوحةَ البحر «أو ملوحة التجربة بالْمِثْل» هي المحكّ الذي سَيَختَبِر قوةَ تحملِكَ ويَدلّك على الطريق إلى ذاتك الصَّانعة لِمَجْدِكَ بما تَتَّخِذُه أنتَ من قرارات تُحْيي فيكَ أنفاسَ الخَلق والإبداع والتميز بقدر ما تُحيي فيكَ مُضْغَةً تُعيد التوازنَ إلى العقل لَمَّا تَكفر بجدار المستحيل الآيل للسقوط في قانونها.

بقلم : سعاد درير
copy short url   نسخ
30/09/2017
3005