+ A
A -
خرجَ هارون الرّشيد حاجاً، وكان من عادته أن يحجّ عاماً ويغزو عاماً، ولمّا أتمّ المناسك، زار المدينة المنوّرة، وكان مُحبّاً للعلم والعلماء، فأرسلَ في طلب الإمام مالك ليأتي إليه ويُعلّمه، فامتنع مالكٌ عن المجيء، وقال قولته الشّهيرة: العِلمُ لا يأتي وإنما يُؤتى إليه! فما كان من الرّشيد إلا أن حضر إلى مجلس مالك في المسجد النّبويّ، ولكنّه طلب أن يقتصر المجلس عليه وعلى من معه.. فقال مالك قولته الشّهيرة الأخرى: لا خير في علمٍ يُوضعُ للخاصة وتُحرمُ منه العامة! فامتثل الرّشيد وجلسَ بين النّاس!
وإنك لا تدري لأي الرّجلين منهما تعجب، للإمام الزّاهد في الخليفة، أم للخليفة المتمسّك بالإمام؟ وهو الذي كان يخاطب السّحابة في كبد السّماء قائلا: أمطري حيث شئتِ فسيعود إليّ خَراجُكِ!
مُذ وُجدت السّلطة على الأرض وهي تحاول عقد قرانٍ مع فئة من فئات المجتمع من أجل تطويع بقية المجتمع! ولطالما وجدت السّلطة ضالّتها المنشودة في رجال الدّين، ففي مصر الفرعونيّة عقدَ القصرُ قراناً مع المعبد فأنجبَ هذا الزّواج الاستبداد المُقدّس الذي يجعل أي معارض للسلطة عدواً لله لا عدوّاً للقصر، وإن نادى في المجتمع بأوامر الله، ففرعون قال عن موسى عليه السّلام: «إنّي أخافُ أن يُبدّل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد»! وفي أوروبا الرّومانيّة قديماً عقدَ القصر قرانه مع طبقة الإكليروس، أي طبقة رجال الدّين، فاقتسما النفوذ على المجتمع، فيحصل الإمبراطور على بركة الكنيسة، وتصبح تصرّفاته وحياً، «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه» ولو قرر أن يُحرق روما! وفي المقابل يغضُّ الامبراطور الطرف عن الكنيسة، لتفعل ما شاءت باسم الله، حتى إن باعت عقاراتٍ في الجنّة، بمرسوم كهنوتيّ أسموه صكّ الغفران!
نحن اليوم نعيشُ شيئاً مما عاشته مصر وروما قديماً، فقهاء السّلطة يحتاجونها لأجل الدّنيا التي معها، والسلطة تحتاجهم لأجل الدّين الذي معهم! والشّريعة رحبة، والنصوص حمّالة أوجه! ويكفي أن يطلب الحاكم فتوى حتى يصبح بعض رجال الدين خيّاطين يحيكون من النصوص الشرعية لباساً على مقاس الحاكم!
إذا قرر أن يُحارب لأيّ سبب كان جاؤونا بآيات الجهاد!
وإذا قرر أن يُسالم جاؤونا بآيات السّلم والتعايش! بغضّ النّظر لمطابقة الواقع لظروف تحكيم آيات الجهاد، أو التعايش!
إذا قُلّصت الرّواتب حدّثونا عن صبر النّاس عام الرّمادة، وعدم تذمّرهم على عمر بن الخطاب، ولا يحدّثوننا أن عمر نفسه جاع كما جاع النّاس، وقال لبطنه يوم قرقرتْ: قرقري أو لا تُقرقري فلن تشبعي حتى يشبع فقراء المسلمين!
إذا فُرضت الضّرائب قالوا: اسمعوا وأطيعوا!
وويل لمستبدّي الخارج من فقهاء الدّاخل، أما مستبد الدّاخل يُسكت عنه لجلب المصالح، ودرء المفاسد، والمصالح المُرسلة، وفقه الواقع، والأخطار المُحدقة بالأمة!
شخصيّاً أتفهّم أنّ الدنيا فتّانة، ولقمة العيش عزيزة، وأنّ بعض الطرق التي يمشي فيها الإنسان يصعب عليه أن يرجع منها، ولكن ما لا أتفهمه، ولن أتفهمه، أنّ إنساناً عاديا في أحسن الحالات، لم يحدث أن أخطأ مرة بحقّ الله أو النّاس، ليُنتقد مرّةً ويُوقف عند حدّه! وأنّ من محاسن الصُّدف أن أحكامه تأتي دوماً مطابقة لحكم الله!
بقلم : أدهم شرقاوي
copy short url   نسخ
24/09/2017
4520