+ A
A -
في غفلة نحنُ، حتى إذا ما انتبهنا، انتباهة ما قبل الموت، اكتشفنا أن معظم (ناسنا): أحبابنا، وأصدقائنا، وأقربائنا، ومعارفنا، أصبحوا في دار، ليست هي الدار التي نستطعمُ فيها نحنُ- الآن- طعاما من طعامها، ونتنفسُ فيها هواء، من هوائها العليل!
فجأة، ننتبه: ناسنا الذين أصبحوا في (العالم البهناك) أكثر من ناسنا الذين مازالوا في هذا العالم. هنا تبدو الدنيا- لوهلة- لكأنما أصبحت خالية، من الأعزاء. ذلك شعور داهم، وموجع، ومخيف، وتلك انتباهة، تُحيلُ طعم الأيام، إلى طعم الدموع، وتحيلُ الليالي، إلى قشعريرة، وتفكير طويل، ممض، في المصير!
بالتأكيد، ملامح ناسك الذين رحلوا، واحدا بعد الآخر، قد تبدو حيّة في ذاكرتك، وقد تبهت، أو تتلاشى، وتكادُ تغيب، لكن هذه الملامح، قلما تغيب من (جواك) بالمرة: أنت تراهم في ضحكة، لا يزال صداها يتردّدُ، أو في دمعة لا تزالُ ساخنة، أو في مشوار لا يزال يختزنُ وقع الخطاوي، أو في ونسة، لا تزالُ أنت تجترّها، من وقت لآخر!
نحنُ هنا، نحنُّ إليهم، غير أننا لا ندري، ما إذا كانوا هُم، في العالم (البهناك) يحنّون إلينا، أم أنهم في شُغل عنا، كل ما ندريه أنهم يجيئون إلينا، على حين غرة، ونحن نيام!
يآآآه،
حين يجيئون، يفيضُ الحنينُ منا، ويستبدُّ بنا الفرح، ونحنُ نستعيدُ من أول جديد، الملامح العزيزة التي(غبّشتها) المسافةُ من الدنيا إلى الآخرة، وحين نفركُ عيوننا من الحلم، نبيتُ الليلة التالية نتمنى: هل من عودة أخرى،، هل؟!
يآآآه، نحنُ، لا نستجلي ملامحهم هم وحدهم، إذ يجيئون إلينا في المنام. نحن- ويا بختنا- نستجلي، من أول جديد- في تمام اللحظة- ملامحنا نحنُ، إذ كنا وهم، ذات دنيا. نستجلي ملامحنا، تلك التي (غبّشتها) معافرة الأيام والليالي،، ومعافرة العيش، ذلك الذي من فرط اتساعه، يُخيّل إلينا ما أضيقه!
البارحة، استجليتُ ملامحي الفتية، حين زارني صديق، كان قد غيّبه الموت في ميعة الصبا. كان هو، كما هو: ذات الملامح النضيرة، ذات النظرة، ذات الطريقة الفنانة في الحكي، كنا (نُخمّس) سيجارة، كما كنا، وكنت: لا شيب، ولا تجاعيد، ولا ضحكة تشوبها رائحة سعال من أثر التدخين!
يآآآه، ما أجمل أن نحلم،،
وما أجمل اللقيا بأعزائنا الذين أصبحوا في العالم (البهناك)، ما أجمل أن نستعيدَ ملامحهم، ونستعيدُ- في الوقت ذاته- ملامحنا التي كانت!
الآن، أتذكرُ صديقا، كان- باستمرار- يطرح السؤال، في وقته تماما: كان، مثلا، حين يتجشأ زجاجة بيبسي، في أحد نهارات الخرطوم التي تتصبب عرقا، يبتسم منتعشا، ويلقي بالسؤال الذي لا يبحث- إطلاقا- عن إجابة: بالله كيف كانت ستكون هذه الدنيا الحارة، لو لم تك فيها زجاجة بيبسي،، بيبسي كولا بآآآآآردة؟!
وكان- مثلا- وهو (يُمزمزُ) أسماك البربري، يرسم ابتسامة شهيّة، قبل أن يلقي سؤاله ذلك الذي لا يبحث- إطلاقا- عن إجابة: بالله كيف كان يمكن لهذه الدنيا، أن تكون شهيّة- هكذا- لو لم تكن المياه، تُغطي الثلثين من اليابسة؟!
تذكرت صديقي، صاحب الأسئلة المنتعشة، الشهيّة، التي لا تبحثُ عن إجابة- على الإطلاق- وأنا أستعيرُ منه، ذات طريقته الطريفة، في إلقاء الأسئلة، لألقي إليكم بالسؤال، وكان لا يزال في عينى بقايا من حلم، مع عزيز في العالم (البهناك): بالله، كيف كان يُمكنُ الوصول إلى أعزائنا، في العالم الآخر، لو لم يكن ليجيئونا هُم، ونحن نيام، وكيف لنا أن نعرفهم ويعرفونا، لو لم يجيئوا بذات ملامحهم التي خبرناها، بل وكيف لهم هُم، أن يعرفونا، إذا لم نكن نحنُ، بذات الملامح التي خبروها؟!
هنا، يطيبُ لي، أن أقدم تعريفا جديدا للإنسان: إنه المخلوقُ الوحيدُ الذي يحلم، يحلم بالإنسان الذي أصبح في العالم (البهناك)، إنه المخلوق الوحيد، الذي يجيئه مخلوق، من العالم الآخر!
بقلم : هاشم كرار
copy short url   نسخ
19/09/2017
2444