+ A
A -

حكي لي أحد المعارف عن زيارة مباغتة من أصدقائه الذين «طبوا عليه» بوقت الغذاء، فطار فرحاً، واتصل بالمطاعم التي توفر خدمة إرسال الوجبات، فلم يرد أحد. فنزل بنفسه لشراء وجبات بعد أن كتب له أصدقاؤه قائمة طلباتهم.
وصل للمطعم، فاتصل ثانية ليسألهم عما إذا كان يريد أحدهم سندوتشات مخ، حينما وجده متوفرا بالمحل، ثم أنهى المكالمة. لكن يبدو أن الخط لم ينقطع، فسمع تهامسهم التي كشفت له أن سبب الزيارة كان بهدف الرهان عليه كونه «سفيهاً» يستطيعون توريطه في دفع فاتورة الغذاء.
عاد صاحبنا لداره ومعه الغذاء، لكنه منحه لأسره الناطور. ثم صعد لداره، واجه أصدقاءه وصرفهم من حياته. الشاهد، لم ينصرف عن خصلة الكرم ولم يكفر بالصداقة، لكنه غير وجهة مصارفه، فانصرف عن إكرام المخادعين واستبدلهم بإكرام المحتاجين. كما رفض الانصياع لعلاقة تخدُم مستغلين باسم مستعار، حيث يتباهى فيها طرف بإمكانية خداع آخر، باستغلاله ماديًا أو استنزافه عاطفيًا، أو بأي شكل من مظاهر التربح من العلاقات.
يعيش الإنسان دهرًا حتى يعي أن الحفاظ على صداقات في حياته لا ترادف الحفاظ على كل المحيطين به، بل إن الاختيار الواعي حتمي، والتخلص من النفايات أولى.
فالناس معادن وقد تضطر لاستخدام الصفيح بتخصيصه النفايات، لكن حذار من أن تقربه من مخدعك.
فكون الإنسان كائنا اجتماعيا لا يعني اضطراره لإحاطة نفسه «بكدابين الزفة» لرغبته في أن يبدو محاطًا. فقد تتحول العلاقة المعنونة بالصداقة لعبء له تبعات مهلكة ومبددة للطاقات وهي بذلك بعيدة عن مفهوم الصدق في الصداقة بل هي محض مصالح أو إتاوات تدفعها من وقتك ومالك لتظل أسير علاقة يتم استغباؤك فيها.
لذلك، فقد يصنف إنسان على أنه انطوائي، في حين أنه فضل انتقاء قلة من المقربين المضمونين عوضًا على الانهماك وسط كم مهول من المستغلين.
فالصغار يقبلون على ارتداء الحلي الزائفة ولو مصنوعة من البلاستيك. أما وتنضج السيدة، فإنها لا ترضى سوى بالماس ولو اكتفت بقطعتين عوضًا عن مئات الحلي الزائفة.
فأغلبنا يبحث عن السند في العلاقة سواء كانت العلاقة مع بشر أو مع أشياء.
الصديق السند، الوظيفة السند، المعارف السند، الزوج السند، الأب السند، الأسرة السند، النسب السند، الجيران السند، السيارة السند، الدراسة السند، المظهر السند، الابن السند، المنصب السند، السمعة السند، المال السند، المصاغ السند، العقار السند أو الدولار السند.
فقلة يستطيعون التعاطي مع محيطهم على شكل حرف «H»، بحيث يكون كل طرف قائما بذاته له، قناعاته، إمكاناته، شغافه وأهدافه. فيتواصل مع الآخرين عبر خط في المنتصف يصل بينه وبينهم. فإن حدث وانقطع الخط أو الصلة، يظل واقفًا، لا ينهار إن فقد شخص عزيز أو وظيفة عزيزة أو سواهما.
لكن كثيرون يسعون لعلاقة بالآخرين، على شكل حرف «T»، يرتكزون ويتعكزون كليًا على شريكهم ليحمل عنهم تبعات مسؤولياتهم، بحيث يستنشقونهم كأوكسيجين لحياتهم.
لذلك فقد يرفع إنسان آخر لمرتبة عالية، كونه اتكل عليه في مصلحة، فيتعلق وجدانه به ليغلف المصلحة بإطار لائق يبرر فيها هيامه بسنده.
فلنحذر ممن يرجون من علاقاتهم بنا أن يجبرونا على استنشاق سموم طاقاتهم السلبية كأجرة على صداقتهم بنا فهم كالـ«بيروسول» يبخون «البايرو نيجاتف سول». إن خطورة النصب في العلاقات تكمن في كونها خفية، لا ترى سوى ببصيرة «مكروسكوبية» لصائغ خبير بأن ليس كل ما يلمع صديقًا ماسيًا، فلديه نظارته الكاشفة لحقيقة معدن الماس والذي هو بالأساس «كربون» لكن قيمته في خلوه من الشوائب، كما البشر بالأساس طين، تكمن خيريتهم في نقاء سريرتهم من علاقات المصلحة. إن اللص أشرف من النصاب، فالأول لو تم ضبطه هرب، وإن أوقفوه اعترف، بكى وندم، فيما تأخذ «نصابو العلاقات» العزة بالإثم، فلا يهربون كاللصوص بل ينتصبون أمام ضحاياهم، مستمرين بخداعهم لآخر رمق، فيقسمون جهد أيمانهم على صداقتهم.. وهم حانثون.
- كاتبة مصرية
بقلم : داليا الحديدي
copy short url   نسخ
16/09/2017
3186