+ A
A -

أَحْبَبْنا طيورَ الجنة، مع أننا تجاوَزْنا الطفولة بأعمار، ومازلنا إلى الآن نَحلم بالجنة، جنتهم، جنة الياسمين والبنفسج والورد والريحان، لكنها في كل الأحيان تبقى جنة الأطفال الذين لم نَكُنْهم والذين أنجبناهم (أو لم نُنْجِبْهم) واشتهَتْهم ومازالَتْ تَشتهيهم الأحضان..
عالَم دافئ من القِيَم والْمُثُل يَنتشلكَ للحظات من مُستنقع الحاضر الرتيب والرهيب بفظائعه وجرائمه الإنسانية لِيَحملَكَ على بساط أوراق الورد الندية إلى حيث يَطيب لك المقام على ضفَّتي نهر الحُبّ الحالِم.. ولو للحظات..
الطفولة نَهْرُ الْحُبّ الذي يَجري مجرى الروح التَّوَّاقة إلى عناق مَنْ لم تُبَعثِرْهم الأشواق.. الطفولة هي بتعبير آخَر عباءةُ البراءة التي تَأخذ مَقاسَ كُلّ جسد على حدة، وما هذا الجسد سوى العالَم الذي يَسكنكَ بعيدا عن عالَم الوحشة الذي تَسْكُنُه أنتَ ولا يَرحم طفولتَكَ..
كلما حَلَّقْتَ مع طيور الجنة لا شَكّ في أنكَ ستتساءل عن مَحَلّ الطفل من الإعراب شِعرا ومسرحا وقصة..
فماذا عن واقع وآفاق أدب الطفل؟!
شخصيا سعدتُ بلقاء واحد من هؤلاء الذين رسموا للطفولة بَسمةً وأجنحة..
هو طائر حَلَّقَ في اتجاه بلادي، فهبّتْ ريحُه في طريقها إلى المغرب كما تَهبّ ريح طيبة من المشرق..
ريح من الأردن حملَتْ حقائبَ أدبه «الأديب» إلى المغرب، فكانت الصدفة، وكان اللقاء، وكان تَبادُل الحديث عن الاهتمامات الأدبية، وفي مقدمتها أدب الطفل.
لقاؤنا لم يكن مرتبا له، عرفتُه بالصدفة، تحدثنا، تصفحنا أغلفة معرض الكتب القائم حينذاك، ووَدَّعْتُه وفي حقيبته شيء مني تُلَمْلِمُه الحروف.
هو من عَرَّفَني بأُمَّهات المجلات التي خَصَّصَتْ حيزا لأدب الطفل، وعَبْرَ واحدة منها وَصَلَ صوتي إلى القارئ الأردني لما نشرتُ فيها دراسة عن الطفل والمسرح.
كنتُ قد نَسيتُ كليا أَمْرَ المجلة لولا أن الأديبَ الكريم أرسل إلى عنواني نسخة من المجلة مع رسالة ومرفقات من أدب الطفل الذي تميز فيه صاحبُه.
ذاك الشاعر الأردني الجميل والكاتب الرقيق الْمُرْهَف المولَع بأدب الأطفال الذي راسلتُه شاكرة على أنه فتحَ لي نافذة على الأردن.
لم أنس الكاتبَ رغم مُضِي أعوام، وأتأسف بحق لانقطاع التواصل بيننا عبر البريد الالكتروني لأسباب خارجة عن إرادتي، لكنني أذكر جيدا أنه أضاف إضافة مهمة إلى أدب الطفل، ولهذا كنتُ أستمتع وأنا أَتَصَفَّح بعضَ كُتُبِه التي سافرَتْ مِن مَعْبَدِه الثقافي إلى بيتي.
قَرَأْتُها مرارا هذه الكتب «كتبه»، ومازلتُ أحتفظ بها. وكلما ذكرْتُها أَجِدُني أتساءل:
- ما سِرّ غياب أدب الطفل عن عالمنا اليوم بالشكل الذي نُريد له أن يَكون عليه؟!
- هل الخلل يَكمن في منظومة أدب الأطفال العربي أم في الظروف التي لا يُراهن عليها الْمُنْجَز؟!
- مَن المسؤول عن الفجوة العميقة بين انتظارات الطفل القارئ والْمُبدِع الْمُقَيَّد بإكراهات الكتابة وتحديات النشر؟!
- أيّ مستقبل وأيّ آفاق تَنتظر أدبَ الطفل في زمكان يَنتشل قلبَ البراءة انتشالا من جسد الطفولة الْمُغَيَّبَة قسرا؟!
- وَقِسْ على ذلك من تساؤلات..
مشاكل أدب الطفل أكثر من أن تُحصيها أو تعدّها، لكننا دائما نُحاول رَدْمَ الفجوة بتراب المحاوَلة، المحاولة التي تَحفظ ماءَ وجه النجاح الذي يَقينَا يَقيناً من التخبط في أوحال الفشل، مع أن الفشلَ في حَدّ ذاته «نجاح مؤجَّل» كما قال يوسف إدريس صاحب مسرحية «الفرافير».
إكراهات بالجملة تَعرفها صناعة أدب الأطفال تَجعل من العسير أن نُعيد البريقَ إلى وجه أدب الأطفال في ظل اغتصاب الطفولة التي تَفرّ هاربةً كما يَفرّ الهاربون من الحروب..
ونحن نَتحدث عن أدب الأطفال كيف لنا ألاَّ نَستحضر الثالوثَ الذي على أساسه نُقَرِّرُ إن كُنَّا سنُبدع وماذا نُبدع ولِمَنْ نُبدع؟!
«لِمَنْ نُبدع؟»، هذا هو السؤال الذي يَستحق منا التفاتةً ووقفةً، لأن الطفلَ الذي سنَكتب له يُشَكِّلُ للأسف النَّصَّ الغائبَ.
فلكي نَكتبَ أدبا للأطفال يُوازي تطلعاتِهم وطُموحَهم إلى التغيير يَنْبَغِي أن نَعودَ إلى الثالوث الذي أَشَرْنا إليه، ونَقصد به على التوالي:
- تعليم الأطفال.
- حماية الأطفال.
- الإنصات إلى الأطفال.
ما جدوى أن تَكتُبَ للطفل إذا كان التعليم لا يعرف طريقا إلى الطفل؟!
ما جدوى أن نَرسمَ للطفل عبر ما نَكتب له حدودَ المدينة الفاضلة إذا كان الطفل نفسه يَفتقد أدنى شروط الحماية؟!
ما جدوى أن نَدَّعي اقترابَ كتاباتنا للطفل من مشاكل الطفل إذا كان هذا الطفل لا يَجد مَنْ يُحسن الإنصاتَ إلى مشاكله وهمومه في عالَم اليوم الذي لستَ فيه في حاجة إلى عيني زرقاء اليمامة لترى كيف أن أكثر ما يَسقط من حسابات مَن يهمّهم الأمرُ هو الانحياز إلى صوت الطفل؟!
لهذا ليس أمامنا إلا أن نُعَوِّلَ على توصيات المسؤولين عن أدب الطفل إن كانت هناك حقيقةً توصيات، لماذا؟! لأن التوصيات يُمكن أن تَأخذ بِيَد الطفل وتَعمل على إدماج الطفل في محيطه وواقعه لِتَخدمَه وتَعمل على تَحسيسه بأهمية أدب الطفل.
أدبُ الطفل مِن المؤكد أنه سيَكون بَوَّابَةَ الطفل إلى الحياة بالشكل الذي يَليق به أن يَراها عليه، مع ضرورة تشديد الحِرص على أن يُسَهِّلَ عليه هذا الأدبُ أَمْرَ تَأسيس رُؤيته الخاصة للحياة بعيدا عن أيّ قَلَق قد يَحُولُ دون قُدرته على مواجهة خوفه من المجهول.
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
16/09/2017
2765