+ A
A -
ليس ثمة كالحج ما يمكن أن يعبر عن وحدة الأمة الإسلامية في توادها وتراحمها وتآخيها، فهو في جوهره احتفاء بفكرة المساواة في أشد معانيها نصاعة ووضوحا، حيث يختفي التمييز على أساس اللون أو العرق أو المكانة الاجتماعية، فهناك الجانب التعبدي الشعائري وما يمثله من صورة رمزية رائعة.
ففيه ينعكس الأمل الإنساني الحقيقي في المساواة، فملابس الإحرام البسيطة والمتشابهة تعبر عن المساواة خارج كل أشكال التمييز، ولا توحي بالتفاوت الطبقي أو تبرّر التفاضل بين مسلم وآخر.
هذه المعاني السامية للحج كما رسمها الدين الإسلامي ظلت مرتبطة بهذه الشعيرة المقدسة منذ أن أرسل الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يتحول الحج إلى أداة للمنع أو للمصادرة حتى في أشد فترات الخلاف السياسي. فقد خضعت مكة لحكم عبد الله بن الزبير ولكنه لم يمنع حجاج الأمويين من القدوم، وخضعت لحكم الأمويين ولم تمنع شيعة الإمام علي من الحج، وخضعت للدولة العبيدية ولم تمنع حجاج باقي المذاهب الإسلامية من الحج، وربما كان الاستثناء التاريخي الوحيد لمنع الحجاج وممارسة العنف عليهم هي لحظة هيمنة القرامطة على بيت الله الحرام، عندما سيطر طاهر القرمطي سنة 317 هجرية على مكة ومنع الحج لسنوات.
فإذا استثنينا تلك الوضعية التاريخية غير السوية التي عرفتها مكة زمن الهيمنة القرمطية (وهؤلاء لم يكونوا مسلمين في حقيقة أمرهم) فقد ظلت حرية الحج وزيارة بيت الله الحرام عرفا ساريا لم تخرج عنه قبيلة أو دولة منذ ما قبل الإسلام إلى العصر الحديث، ولم يكن هذا السماح مكرُمة أو فضلا من أحد لأنه لا يحق لأي كان أن يمنع الناس من زيارة بيت الله، أو أن يمُن عليهم بحق أوجبه الله تعالى لكل مسلم، عندما افترض عليه الحج.
فالمغزى الحقيقي للحج أن فيه مجاوزة لمعنى الرابطة المحلية الضيقة، وانفتاحا على كونية الإسلام وعالميته، حيث يصبح إسلام المرء هو جنسيته، وإيمانه هو هويته، بعيدا عن المناكفات الضيقة، ورغبة الهيمنة المتأصلة في النفوس.
غير أن ما لحق بحجاج قطر هذا العام من منع ثم مراوحة بين فتح الطريق لهم لزيارة بيت الله ضمن اشتراطات، أو تصوير الحج وكأنما هو منة من حاكم، أفقد الحج معناه الحقيقي فكيف يمكن لحدث ديني تعبدي عظيم كهذا أن يتحول إلى أداة للمناكفة السياسية وتصفية حسابات ليس للمسلم الذي يريد تأدية الفريضة أي علاقة بها؟.
فمحاولة توظيف الحج لخدمة سلطة الأمر الواقع هو خروج عما تعارف عليه المسلمون من تجنيب للأماكن المقدسة لمنطق المناكفة وخدمة مصالح ذوي السلطان، وهو تهديد للوحدة الإسلامية التي سعى الإسلام إلى ترسيخها، ومس بفكرة الحرم الآمن الذي جعله الله مثابة للناس.. فهل يمكن تبرير منع شعب بأكمله من أداء إحدى فرائض دينه وتحويل إحدى شعائر الدين الحنيف إلى أداة للمساومة والابتزاز وتصوير السماح المشروط لبعض القطريين بالحج باعتبارها منة وتفضلا رغم أنها من الواجبات التي أوجبها الله على عباده المسلمين؟!
ما أحوج أهل الإسلام اليوم إلى تجاوز خلافاتهم وإبعاد قضايا عباداتهم وعقائدهم عن الخلافات السياسية ذلك أن توظيف قداسة المكان لخدمة مصلحة سياسية آنية يخالف مبدأ الأخوّة الإسلامية، فهل يُعقل أن يتحول الحج إلى مجال لتصفية حسابات سلطوية؟ وأن يكون الحجيج ضحية لقرارات جائرة تخالف أوامر الدين ومبادئ حُسن الجوار؟
كيف يمكن والحال هذه أن نفصل بين صورة الحج في نقائه وجوهره الحقيقي بوصفه تجسيدا للوحدة الإسلامية الكبرى، وبين رغبة البعض في توظيفه سلطويا بشكل يبث المزيد من الفرقة ويخلق أشكالا من العداوات والصراعات ما أشد حاجة الأمة إلى تجنبها والابتعاد عنها؟.
بقلم : سمير حمدي
copy short url   نسخ
05/09/2017
2846