+ A
A -
الجوع والحرمان في أكثر الأحيان يَصقلان مواهب الإنسان، فإذا بتيار الإحساس يَضرب نهرَ الإبداع الذي يَجري بين ضِفَّتَيْ قلبه وعقله.. الظروف تعسا لها! الظروف دائما هي الجاني رقم «1» الذي يَنصهر الإنسان على صفيحه الساخن، فما بالك بأن يَكون هذا الإنسان تَوأما لشعاع الشمس في شفافيته ولخيوط الشمع في قابليتها للانصهار! نَقِفُ الآن عند مشارف مُدن الألم لنلتقط صورةً عابرة لجسر الأمل حيث يتزوج الشوقُ الرغبةَ لِيَلِدَا قَوسَ قزح، قوس قزح تَنفرج على شفاهه ابتسامةُ النفس الإنسانية المعذَّبَة بِحُكْم القَدَر، القَدَر هذا الذي يُبْرِق كما تُبرِق صرخةُ طبول الحَرب التي تؤذن برقصة سيوف فرسان الضوء والظلام..
الابتسامة الجريحة، هذه إيميلي برونتي..
ومَن تكون إيميلي برونتي أكثر من عصفور هارب من قسوة القَدَر، عصفور بأصابع مرتعشة يُطارد الحظَّ ليلتقط الحلمَ..
الحلم شمس يُفَكِّر المبدعُ الإنسان بأنَّ قَطْفَها قد آن، وهكذا فَكَّرَتْ إيميلي، إيميلي الإنسانة المعذَّبَة بحنينها إلى المنفلِت العصي على الانقياد في ظل ثورة القيود والأصفاد التي تَصلب الأملَ على جدران الألم..
الصورة رمادية، والْمَشهَد حزين، والبطلة إيميلي تَخوض المغامَرة وتُنازِل السنين انتقاما لصوت ذاتها الدفين الذي استكثرت عليه الأيامُ أن يُفَصِّلَ حكايةَ القلم والورقة في كتابِ حياةٍ لَمْ تخترها الكاتبة والروائية التي ثَمَّنَت الكتابةَ النسوية بفصل آخَر عن الأدب الانجليزي العَبِق بأصالته..
«مرتفعات ويذرينغ» هذه ثمرة الاختيار الْمُرّ عند إيميلي، اختيار الكتابة، بغض النظر عمّا إذا كانت إيميلي نفسها قد اختارت الكتابةَ أو أن الكتابةَ اختارتْ إيميلي.. هذه الـ«مرتفعات» ليست سوى الحياة الثانية التي أثثتها إيميلي بطريقة الكتابة الروائية وعرفَتْ طريقَها إلى الخلود كغيرها من الروائع الأدبية..
البداية، في القصة التي كَتَبَها القَدَر لإيميلي، ليسَتْ أكثر من شاطئ دموع تَسبح فيه الروحُ التَّوَّاقة إلى الانعتاق من قبضة الظروف التي حَوَّلَتْ حياةَ امرأة إلى شاهدةٍ EPITAPHE. أمّا النهاية، صَدِّقْ يا صديقي أنها تَظَلّ مفتوحة، مفتوحة على الموت الذي جَرَّب أن يأتي مرارا، وفي كل مرة يَتخذ شكلا جديدا، مع أن المضمونَ ظلَّ واحدا..
تراءى الموتُ لإيميلي كالطيف الخجول الذي يعدل عن تنفيذ قراره في كل مرة يُصَوِّر للصغيرة إيميلي عقلُها أنه سيُعفيها من ذَيلِ حياةٍ يَجلدها قسوةً ويَسرق أنفاسها عنوة.. لكنه (الموت) قبل أن تتوهج شمس العمر اشتعالا يُقْسِم ألاَّ يَرحلَ إلا ساحبا جسدَها الهزيل معه..
السّلّ مَصّاص دِماء في مَشهَد كابوس جاثم على ساحة الحقيقة، إنه في عالَم إيميلي يَسرِقَ عصافيرَ الفرح قبل أن يفقس بيض طائرِ الحياة المسافر على مدى مسافات الوجع والعزلة..
ثلاثون سنة من العزلة والموت على سفن المحنة: هذه هي الحصيلة.. ثلاثون سنة هي كل رصيد إيميلي برونتي من العملة الصعبة التي يُجسدها العمرُ الذي ركبَتْ خيلَه في صحراء اغترابها الوجودي دون أن يُفارِقَ الحافرُ الجسدَ..
تراجيديا الحياة تَكتبها الشقيقاتُ الأديبات اللواتي تتوسطهن إيميلي برونتي، وليل أشجانهن قصيدة تَبكي دموعا يُغرِقُ بحرُها مساحةَ اليابسة التي لا تَسَعُ نبضَ الأمل في قلوبهن المعفاة من الإنصات إلى أغنية الحياة.. السّلّ مرة أخرى يَرسم خريطةَ الذكرى حين ينتصبُ خنجرا يزمجر غاضبا وهو يَقطع شجرة الحياة في صدور الشقيقات، فتَسقط خيلهن تباعا قبل أن تَرتشف الواحدةُ منهن شيئا من نَبيذ الفُرصة الذي يَقود إلى الإحساس بنشوة الحياة قبل أن تُظلمَ حجرات الجسد..
لا بل أكثر من هذا، يَقول لسان الحال إن السّلّ اللعين قد عصف بكل الآمال لما عاث فسادا في بيت آل برونتي، السل استلّ سيفَه ولم يَرحم صغيرا ولا كبيرا من أهل إيميلي برونتي..
الشقيقات برونتي (إيميلي برونتي، تشارلوت برونتي، آن برونتي) غَرفْنَ من خابية الأدب والشعر، وبالمثل غرفْنَ (مجبرات) من خابية الفقر، ولم تُبْقِ لهن الإكراهات حتى الفُتات من رغيف الحياة..
الفقر موجِع وظالِم للنفس الإنسانية الباحثة عن العدالة الإنسانية. الفقر يَد مِن حديد تَضرب على أعناق العبيد، عبيد الناس الذين زهدَتْ فيهم الحياة وما زهدوا هُم في تَرَقُّب موسم جني تفاحة الحياة..
تفاحة الحياة أعز ما يُطلَب بالنسبة لكاتبة مثل إيميلي، لكن كيف الطريق إليها، والحال هذه، في ظل موقف الرفض والتمرد والعصيان الذي فرضه الحرمان..
الحرمان الذي سَيَّجَ حياةَ إيميلي برونتي كان يَكبر ويَكبر، وفي المقابل كانت تَكبر موازاةً معه أكثر فأكثر نخلةُ الإبداع الذي جَنَّدَ الشقيقات وعلَّمَهُنّ كيف يَصنعن من الموت بابا إلى الحياة؟!
إنها الحياة التي تُخَلِّدُ الذات الكاتبةَ، ولا ينال منها غبار الزمن الذي يَسمح برحيل الجسد، لكنه لا يَسمح برحيل الروح التي تَظَلّ تَنبض بين دَفَّتي كتابٍ غادرَنا صاحبُه، لكن كتابتَه لم تُغادِرنا.
الحكمة والدرس: من الْجُبْن أن تَموتَ مرتين، فأنت ككل الخلق لكَ حياة أولى تَعيشها، لكن ثِقْ بأن في داخل كل منا مارِدا يَنتظر منا أن نُحَرِّرَه ليَخرج إلى الوجود في صورة قُدُرات ومهارات لا تَبحث عن شيء سوى القالَب المثالي الذي يَليقُ بها ويَستوعبها ويُعطيها الحياة المعادِلة لحياتنا الصغيرة.
بقلم- الدكتورة سعاد درير
copy short url   نسخ
03/09/2017
3076