+ A
A -
كم من مواقف جرحت صبانا فكشفت لنا الضلال في أغوار نفوس البشر.
فحدث أن سمعت يومًا سيدة ستينية روت بأسى كيف ساعد زوجها ولديهما في تكاليف الزواج فيما بخل عليها بشراء خاتم ماسيّ أسوة بكنّاتها. ثم شرحت بنبرة علا فيها صوتها كيف أنها بحصافتها تمكنت في عام من ادخار من مصروف البيت مبلغًا اشترت به الخاتم وتساوت بكناتها، فاستكانت روحها.
مرت شهور والتقيت بذات السيدة في محفل لصفوة المجتمع، فإذا بها تَزُج برواية أخرى للخاتم، وقد خضعت بصوتها قائلة: «بنات، زوجي أهداني هذا الـ«سوليتير» ليشبكني بمناسبة عيد زواجنا»!
يوم أرادت رسم دور القوية، علا صوتها وحين ارتأت لعب دور الأنثى المرغوبة رفعته!
وكم صادفت في صباي سيدات مدعيات للإنهاك، ومصدرات لصورة الشخصيات المستهلكة على أنه متى قيل لهن هيا «شوبينج»، هلم «سفرة»، فتتحول «لماك جايفر» وتصول وتجول في عدة مولات بيوم واحد.
هذه المواقف جعلتني أفهم أن النجاح الزائف ليس في الطريقة الحقيقية التي نرى بها أنفسنا لكن بحسب الأسلوب الزائف الذي نصدر به صورتنا للآخرين.
إن سر النجاح الزائف في الحياة ليس أن تكون بل أن تبدو.
ليس أن تكون ناجحًا بل أن تبدو محاطًا.
ليس أن تكون مثاليًا بل أن تبدو قريبًا من الكمال.
ليس أن تكون جميلًا بل أن تبدو فاتنًا.
ليس أن تكون قويًا بل أن تبدو صلبًا.
ليس أن تكون فصيحًا بل أن تبدو مفوهًا.
ليس أن تكون عاقلًا بل أن تبدو صموتًا تعلوك إمارات الحكمة.
ليس أن تكون غنيًا بل أن تعتليك مظاهر الثراء ومنها أحيانًا الظهور بمظهر اللامبالي بالبضائع الثمينة.
ليس أن تكون ذكيًا بل أن تبدو حاذقًا، ألمعيًا، اريبًا، لبيبًا ولوذعيًا.
ليس أن يكون محتواك أنيقًا مثقلًا، لكن أن يكون مظهرك براقًا.
ليس أن تكون متدينًا بل أن تذكر صيامك، قيامك والتزامك ولو كنت كويفراً، صنديدًا.
ليس أن تكون واثقًا بل أن تمشي واثق الخطوة، متثاقلًا، غير مكترث، فتبدو واثقًا.
ليس أن تكون أنانياً بل أن تتأني ولتفرط في «أنا» ثم تستعيذ بالله من مقولة «أنا».
ليس أن تكون شجاعًا، مصاولًا، مغوارًا، بل أن تبدو جسورًا.
ليس أن تكون حييًا بل أن تبدو للناس خجولًا.
ليس أن تكون نزيهًا بل أن تبدو للناس عفيفًا.
ليس أن تكون مهًما بل أن تبدو ذا علاقات، مشغولًا، فتنطبع عنك العظمة.
ليس أن تكون طيبًا بل أضمر شرًا وضرًا على أن تبدو منكسرًا، وديعًا فتُعنون أليفًا.
ليس أن تكون نقيًا بل قد تكون من الغيارى، الحسدة على أنك تبدو للناس ملائكيًا.
ليس أن تكون قنوعًا بل أن تبدو للناس مستكفيًا، راضيًا، زاهداً، روميًا، تبريزيًا، متصوفًا.
ليس أن تكون مثقفًا، مفكراً، عميقًا بل أن تبدو ملمًا، مطلعًا، موسوعيًا، قوالًا ولو كنت اعتسافيًا، اعتباطيًا أو محض تويفهًا.
ليس أن تكون بطلًا بل أن تبدو مغوارًا، فارسًا، هُمامًا.
ليس أن تكون مهيباً بل أن تبدو فخيمًا، رصينًا، رزينًا، جليلًا، مفتخرًا، غائبا، شاهقًا، بعيد المنال، فمهيبا. ترد على الجماهير من علياء بإشارة ولا ترضى سوى بأن تلعب أدوار النجم الأوحد.
ليس أن تكون ذاتك الحقيقية بل ذاتك الخيالية التي تختال بها على الآخرين.
سيحقق لك هذا الفن الزائف لصناعة الهيبة نجاحًا مغشوشًا، لكنه لن يُحققك. فهو ليس كعصى الكليم يلقف ما يؤفقون. لذا، ستتربع أنت على عرش من خدعتهم.
ليس أن تكون ذاتك الحقيقية، بل الخيالية التي تختال بها على سواك أو على نفسك. هذه الذات المصنوعة من مئات اللبِن كما وصفها «عدنان إبراهيم» لبِنة المال، لبِنة الجمال، لبِنة العلاقات وكلها حجارة لهيكلك الوهمي بأهوائه المختلفة التي وصفها الحلاج:
كانت لقلبي أهواء مُفرقة
فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي
تركت للناس دنياهم ودينهم
شُغلًا بحبك يا ديني ودنيائي

بقلم : داليا الحديدي
copy short url   نسخ
26/08/2017
6013