+ A
A -

في أزمنة غابرة كانت غريزةُ عشق المال بقوةٍ حاضرة. لهذا كان سعيد الحظ مَن وُلِدَ وفي فمه ملعقة من ذهب.. إنه الشِّعر الذي تَفَجَّر ماؤه يَنابيع تَسقي المحروم، وسَرَى كالمغناطيس الذي يُقَرِّبُ إلى عينيكَ النُّجوم..
الشِّعر رَفَعَ مُلوكا، وهَدم صُروحا، وتَوَّجَ الجواري أميراتٍ بلا إمارة، وأعاد إلى دائرة الضوء والوَضَاءَةِ كائناتٍ بَشَريةً انْتُشِلَتْ من قَذارة.
من هنا قاد الشعراءَ دَهاؤُهم إلى استثمار البَيْت للقبض على الدرهم والمتاع، فأَبْحَرُوا بكل ما أُوتوا من قوةِ نَظْمٍ ليُقَدِّسوا ذاكَ ويُدَنِّسوا هذا، وكانت رحلةُ الحَرْفِ في عيونهم مَلاَذا.
دَرْسُ المتنبي يَقول إن صاحبَنا أبا الطيب الذي ادَّعى النُّبُوةَ (وهذا الأصل في تسميته بالمتنبي) إيمانا منه بتفوقه على سواه يُعَلِّمُكَ ما مَعْنَى أن تَثُور على كافور..
فأما النُّبُوة، فتُستشَفّ أكثر فأكثر من قول أبي الطيب:
«ما مقامي بأرض نخلة إلا
كمقام المسيح بين اليهود» (المتنبي).
بل يُضيف الشاعر ممعنا في تأكيد ما ذَهَبَ إليه:
«أنا في أمـة تداركها الله
غريب كصـالح في ثمود» (المتنبي).
وأمّا كافور، مَن يَكون كافور هذا؟!
إنه سَيِّد القوم الذي حَجَّ إلى دياره الشاعرُ المتنبي (الكريم) الشهير عند العامة ببيته الحكيم:
«أنا الذي نَظَرَ الأعمى إلى أدبي
وأسمعَتْ كلماتي مَن به صَمَمُ» (المتنبي).
شاعر ويا له مِن شاعر لا تَنقصه الثقةُ ليَعتدّ بنفسه!
فلماذا حَجَّ المتنبي إلى ديار كافور؟!
طلبا للمال لا نقاش في هذا، لكنه طَمعَ في ما هو أكثر من المال الكثير، إنه النفوذ الذي لا يَملكه إلا سلطان أو أمير..
أإلى هذه الدرجة يَبلغ بالشاعر (أقصاه) التذللُ إلى رجُل يَملك المالَ والجاه؟!
لا يَختلف اثنان في أن الشِّعرَ يُغَذِّي الروح ويُنعش شرايين الوجدان، غير أن مما يُفقِدُ الشعرَ رونقَه وبهاءَه هو أن تَجِدَ أن أعذبَه ليس أصْدَقه فقط، وإنما أيضا أَكْذَبه..
مِن المعروف أن الشعراءَ في زمن مضى كانوا يَقتاتون بالشعر ويَغتنون بالشعر، وكان أكثر أغراضه رَوَاجاً في سوق الناس المدح والهجاء..
لهذا كانت عِلّية القوم تَبحث عَمَّن يُجَمِّل صورتَها في العيون، وهنا يَنفش الشاعر ريشَ قريحته كالطاووس، فبِقَدْر ما أصابَ مادحا أَغْدَقَ عليه الطالبُ الراغب في المدح مِن المال تلو المال..
لكن الشاعرَ (اللئيم) لم يَكن يَكتَفِ بتلميع الْمُحَيَّا لِيُعجَبَ به الآخَرون، فكان من جهةٍ أخرى يَبْحَث عن موارد أخرى للشهرة والاغتناء، وهنا يَأتي دور الهجاء..
وبقدر ما أصابَ سَهْم الشاعرِ رأسَ الْمَهْجُوّ كان الشاعرُ يَنال حظَّه مِن كَرَم أصحاب المال الذين يَسرُّهم أن يَذمّ الشاعر عدوا لهم..
صاحِبُنا المتنبي كان يَعزف على هذه الأوتار، فكانت له في خرجاته الشعرية وصولاته وجولاته مدارج ومعارج إلى سماء الأسرار، أسرار فَنّ القبض على المتعة والمتاع مهما بَلغَ بصاحبنا الانقِياد والانصِياع..
هذا المتنبي المحسوب على مشاهير شعراء العَرَب، هُو الذي رافق سيفَ الدولة الذي كان سيِّدَ حَلَب، غَرفَ من خابية النعيم وعَرفَ رغدَ العيش منذ فتح له سيف الدولة الحمداني أبوابَ جنته، لكن الشاعر طمعَ في الحظوة بأكثر مما في وسع شاعر أن يَحظى به..
الفكرة المجنونة قد تُلقي بكَ في حفرة الجحيم حين تَكفر أنتَ بالنعيم، ولعل هذا نفسَه كان الفخّ الذي نصبَه للمتنبي الحاقدون عليه، لماذا؟! لأنهم لم يَطب لهم أن يَهنأ المتنبي بما كان فيه وهو في بلاط سيف الدولة، بينما لم يَبلغوا رُبعَه..
الحِقد جريمة تَقترفها النَّفْس الأَمَّارة بالسُّوء، وما أكثر النفوس الأمارة بالسوء التي جَنَتْ على مكانة المتنبي ونجحَتْ بمَكر في إزاحته من طريقها لتَفوزَ بقلب سيف الدولة وعطاياه.
تحالَفَت الظروفُ مع الأقدار ضِدّ الاختيار، اختيار المتنبي، وفي نهاية المطاف وجدَ نفسه يركَب موجةَ الرحيل باحثا لرغباته عن خيمة أخرى تُطفِئ شعلةَ انتظاراته.
هذه المرة حطّ المتنبي الرحال عند باب كافور، وبقدر ما أجزل كافور العطاءَ كان مَدْح المتنبي له يتدفق كالشلال، الشيء الذي جَدَّدَ عند الشاعِر الآمال.
الحُلم القديم الذي خَيَّمَ على سماء تَفكير الشاعر لم يَمُتْ، بل إن الشاعرَ وجدَ نفسَه هذه المرة أكثر تطلعا إلى تحقيق طموحِه المشروع.. إنه الوصول إلى ما هو أكثر من المال.. لنقل إنها السلطة، السلطة التي مارسَتْ إغراءاتها على الشاعر وجعلَتْه يَهذي بها.
لكن هل استجابَ كافور؟!
بالتأكيد لا، وهذا ما ألهبَ إحساسَ الشاعر بالخيبة، ومن ثمّة جعله يَكيل الهجاء لهذا الـ«كافور» الذي استكثر عليه الشاعر ما سبق أن مدحه به.
وهنا يَبدأ عَرْض آخَر ساخِر حين يُغادِر الشاعِر قصرَ النعيم ويَهجو صاحِبَه كما يَليق بعَبْد ذميم.
لكن كيف يتجرأ الشاعر على كافور؟!
وهل يعقل أنه بهذه الحِدَّة يَثور؟!
الحقيقة أن هذا الموقِف يُبين لنا كيف أن المجدَ الزائل يُباع كما يُباع الوهم، وهذا ما يؤكد أن نجاح المتنبي في مدح كافور يَشي بعبقرية الصناعة، صناعة الشعر، لأن النظم الذي أجاد فيه الشاعر واصفا الـ«كافور» بما ليس فيه بَيْنه وبين الصدق ما بين السماء والأرض.
ولهذا لم يَجد الشاعر صعوبةً في أن يَنقلب على كافور ويَنعته بكل الصفات الذميمة رادّاً الاعتبار لعرش الكلمة المنهار وهو يتقرب إلى كافوره لحاجة في نفسه متناسيا تاريخ العبودية الذي لا يُنكِرُه أحد على كافور الإخشيدي قبل أن يَحكمَ في مصر.
وهنا يَصرخ السؤال قبل أن يَلتَقِطَ الشاعرُ بمآل الشاعر أنفاسَه: لماذا لم يَجِد الشاعرُ حَرَجاً من الثورة على كافور، في الوقت الذي لم يَنقَلِبْ فيه على تدبير سيف الدولة الذي تَجاهله ولم يَعترف بطموحاته وتطلعاته؟!
الحقيقة أن علاقةَ الشاعر بسيف الدولة كان فيها من الأخوة والصداقة والاعتبارات الإنسانية ما هو أكثر من أي مصلحة تُذْكَر. أمّا علاقة الشاعر بكافور، فهي لا تَخرج عن علاقة مَن يَبيع بِمَن يَشتري:
- المتنبي كان يَبيع الكلام طمعا في المال وما هو أكثر مِن المال.
- كافور كان يَشتري الوهمَ إرضاءً لِذَاته التَّوَّاقة إلى الانعتاق من قيد الشعور بالنقص.
ولهذا لم يَحمل المتنبي هَمَّ الانقلاب على كافور لما استكثر على الشاعر مَطْلَبَه، بينما كان هناك أكثر مِن دافع يُنَزِّه المتنبي عن السقوط في الإساءة لسيده سيف الدولة، بالتالي رأى شاعرُ الحكمة أن من غير العَدْل والحكمة أن يَنقلبَ على سيف الدولة الذي ربطته به قصةُ إنسانية وحُسنِ نِية أبدعَها القَدَر.. وفي هذا ذروة الحكمة.
ما أكثر الأبيات (أبياته) التي تُفْشِي إلى أيّ مَدى كان صاحِبُها شَغُوفاً بالقبض على حكمة الحياة، وفَلْسَفَتِها بالشكل الذي يَليق بانتصارات وانكسارات الذات. ومِن هنا تَجَلَّتْ أبيات للشاعر في صورة الكؤوس التي تسقِيكَ من الدروس ما يَبعَث على الرواء في غير زمن الاكتفاء..:
«إني لأعلم، واللبيبُ خبيرُ
أن الحياةَ وإنْ حرصتُ غُرورُ
ورأيتُ كُلاّ ما يُعلِّل نفسَه
بِتَعِلَّةٍ وإلى الفناء يَصيرُ» (المتنبي).
الشِّعر الذي جَرَى في اللسان (لسانه) هو نفسه ما قطع اللسان (لسانه). مِن هنا لَن نستغربَ عندما نَعرف أن مقَصّ الهجاء هو ما عَجَّلَ بقصّ حبل حياة الشاعر، فلم يَقتُله إلا منتصرٌ لِمَنْ هجاه الشاعر بعيدا عن سماء كافور.
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
26/08/2017
3349