+ A
A -
روث بفاو.. تلك الراهبة المسنة، هشة العظام، لامعة الروح، غنية الوجدان، ذكرتنى بدكتور تروب.
كلاهما وهب عمره لمكافحة مرض الجذام.
روث، في باكستان، وتروب في السودان.
هي، رحلت قبل يومين، وشيعتها باكستان التي كانت تطلق عليها «أم تيريزا باكستان» في جنازة رسمية، شارك فيها الرئيس ممنون حسين، الذي شارك في الصلاة على روحها في كاتدرائية سانت باتريك في كراتشي، وهو المسلم، غزير الإيمان.
كان جثمانها الخفيف، ملفوفا- وهي الألمانية- في العلم الباكستاني، وكان جوقة المراسم الشرفية تنتصب في ما يشبه الخشوع، حين دوت المدفعية واحدا وعشرين طلقة، والمشيعون وقوف، أفئدتهم عامرة بالصلوات، والدعاء، والامتنان.
بكاها المجذومون بحرقة. وبكاها العامة الذين يعرفون أفضالها الإنسانية، ومكابداتها وهي تثابر في علاج الجذام، بافتتاح مائة وخمسين مركزا طبيا وتأهيليا، في الكثير من مدن باكستان.
ذكرتني بدكتور تروب، ذلك السويسري، الذي شاب، وانحنى ظهره، وهزل، وهو يكافح في صبر أولي العزم من رسل الإنسانية، لقهر الجذام، في مناطق متفرقة من السودان، من بينها العاصمة نفسها.
دكتور تروب، رحل قبل سنوات، في سويسرا، في هدوء تام، ولم يتكرم السودان الرسمي، بنعيه، حتى من شاكلة ذلك النعي البائس، الذي ينعى فيه أولئك الأفاضل الذين ارتبطت أسماؤهم، بالأفعال النبيلة للوطن، والإنسان.
مازلتُ أذكره، ولا تزال صورته تتراءى أمام عيني، وأنا أراه والدهشة تملؤني كلي والمخاوف- كلما زرته. كنتُ أراه منحنيا، يطبطب أصابع مريض نازف، دون أن يرتدي هو «جوينتات» في عيادته الخيرية في حي «ود درو» في ضاحية أمدرمان. بدد مخاوفي حين عرفت منه، أن النزف لا يُعدي.
كان مرضى الجزام، يأتون إليه من كل فج من السودان، وكانت عيادته الخيرية مفتوحة كل أيام الأسبوع، وكان قلما يجد الوقت حتى للصلاة، في الكنيسة- أيام الآحاد- وهو المسيحي الملتزم، في لين وصرامة.
مازلت أذكر دموعه، وهو يحزم أشياءه البسيطة، مطرودا من السودان- خلال ثمان وأربعين ساعة- في الثمانينيات، بتهمة التجسس!
يتجسسُ على ماذا، هذا الرجل الهرم، وهو الذي ليس له من وقت، حتى ليروّح عن نفسه، ويرتاح قليلا، من وعثاء المهمة النبيلة، الشريفة، التي وهب لها علمه، ومروءته، وعمره كله؟
ذلك السؤال أكل مخي، وأمخاخ كل الذين يعرفونه عن قرب.
آه، حين يأخذ التعصب لدين من الأديان، شكل الافتراء، وتلفيق الاتهامات، والطعن طعنا، في النوايا الشريفة، والأهداف الإنسانية النبيلة.
يوم دموعه تلك، لم يكن هو حده الذي يبكي. أبكاني واستبكى كل الذين لوحوا له بالوداع، وهو يغيب، تتخبطُ خطواته المتثاقلة- إلى صالة المغادرة- كل أشواق الرجعى.. الرجعى المستحيلة!
باكستان والسودان.. دولتان يشتركان في السين والألف والنون، ويختلفان في فهم الذين يستحقون الفهم، ويستحقون التعظيم، حتى ولو كان هؤلاء يدينون بغير الديانة التي تدين بها الأغلبية، في أي من الدولتين.
ما حدث للراهبة الألمانية، ودكتور تروب السويسري، يكشف ذلك.
اختلاف الأديان- والأديان كلها من رب واحد- لا يُفسد لرسل الإنسانية، قضية.. ولا يفسد لهم فضلا من أفضالهم العظيمة.
وحدها الدول التي تعرف أفضال هؤلاء الرسل، هي التي تعرف ذلك.
لكل رسل الإنسانية- في أي مكان- كل الامتنان.
بقلم : هاشم كرار
copy short url   نسخ
21/08/2017
2914