+ A
A -
في كتابه الشهير عن «طبائع الاستبداد» قارن عبد الرحمن الكواكبي بين الاستبدادين الغربي والشرقي وخلص إلى أن «الاستبداد الغربي إذا زال تبدل بحكومة عادلة تقيم ما ساعدت الظروف أن تقيم. أما الاستبداد الشرقي فيزول ليخلفه استبداد شر منه». ويلفت كذلك إلى الفارق بين أمة نالت حريتها بعد أن أعدت نفسها أولاً للحرية وأخرى حصلت على الحرية فجأةً، فيقول «يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به. فالحرية التي تنفع الأمة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها.
أما التي تحصل عليها إثر ثورة حمقاء فقلما تفيد شيئاً لأن الثورة غالباً ما تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت. والاستبداد لا ينبغي أن يقاوم بالعنف كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصداً».
ومن يقارن بين كل ثورات العرب وبعض ثورات الغرب لا بد وأن يزداد إعجابه بفكر الكواكبي. فالثورات الغربية الكبرى مثل الإنجليزية والفرنسية والأميركية انتهت بتمكين المجتمع وتأسيس ديمقراطية فعلية. أما الثورات العربية فاستبدلت استبداداً باستبداد تماماً كما نبه الكواكبي. وبالتالي فالمقارنة بين ثوراتنا وثوراتهم قد لا تكشف عن أوجه عديدة للشبه بقدر ما تكشف من فوارق. لكن التأريخ للثورات العربية ابتلي للأسف الشديد بأصحاب أقلام يعشقون المبالغة وإيهام الذات بأن ثوراتنا كانت ناجحة وأن تأثيرها الكوني لا يقل عن تأثير الثورات الكبرى في التاريخ. ومثل هؤلاء من عشاق المقارنات الزائفة لا يهتمون إلا بدغدغة المشاعر والتستر على اعترافات جماعية خائفة. اعترافات يجب أن تقر بأن العرب لم ينجحوا ولم يفلحوا سياسياً حتى بعد أن وصلوا بالتضحية إلى أوجها، وأنهم برغم ما بذلوه من دم من أجل التغيير ما زالوا يواصلون السقوط. ولعل الخوف من الاعتراف بالفشل الثوري المتكرر هو ما يدفع إلى الانسياق نحو تلك المقارنات الثورية الزائفة.
وتأسيساً على ما ذهب إليه الكواكبي فإن ثوراتنا وثوراتهم تختلف على الأقل في أمرين. الأول أن الثورات العربية لم تسبقها تهيئة لما بعدها. لم يكن لديها استعداد مسبق للاستفادة من وقوع الثورة أصلاً ولا تقدير لقيمة الحرية التي فتحت الثورة أبوابها. لهذا السبب مثلاً راحت جموع من نفس الناس الذين أيدوا ثورات الربيع العربي ينقلبون عليها وينتقدونها ويهاجمونها لا لشيء إلا لأن توقعاتهم كانت ساذجة حيث تصوروا أن الثورة تستطيع أن تنجز أهدافها بضربة واحدة. كما أنهم لم يهيئوا أنفسهم قبل الثورة لفهم معنى الحرية ومسؤولياتها ولهذا لم يكن غريباً أن يسيئوا استعمالها بمجرد وصولها إليهم. وغياب التهيئة اللازمة للمجتمع قبل وقوع الثورة يعكس غياب مشروع فكري كبير للتنوير والتثقيف ورفع مستوى الوعي. فلم يكن لدى كل الثورات العربية فلاسفة تنوير مثلما تميزت الثورات الغربية الكبرى. الثورات العربية كانت حركة بلا فكر وجسد بلا رأس وجماهير بلا قيادة وغضب بلا رؤية. لم تسبقها ثورات معرفية تهيئ وتجهز لها الأرض. أما الثورات الغربية فكانت الكتابات التنويرية ترسم صورة في مخيلة الناس عن مجتمع المواطنة والحرية الذي سعت تلك الثورات إلى إقامته وبالفعل أقامته.
الأمر الثاني أن الثورة الأهم ليست بالضرورة ضد الحاكم الفاسد وإنما ضد المحكوم الغافل. إنها الثورة الاجتماعية حيث يجب أن يسبق تغيير المجتمع تغيير الدولة أو على الأقل يتواكب معه. أما في منطقتنا العربية فالتيارات السياسية كافة ما زالت تؤمن بالإمساك بالسلطة أولاً ثم تغيير المجتمع بعد ذلك من خلالها. لا تريد أن تعترف بأن المجتمع الناجح هو الذي يصنع ثورة ناجحة. الإصلاح الاجتماعي بمعنى آخر ثورة من نوع مختلف يجب أن تمضي بل وتسبق الثورة السياسية وتمهد لنجاحها. فهو ثورة هادئة وطويلة تحدد نصيب الثورة السياسية الصاخبة من النجاح والفشل. والفارق بين ثوراتنا وثوراتهم أن ثوراتهم توجت عصراً كاملاً من النهضة انتهى بتلك الثورات التي استكملت في السياسة ما بدأ تغييره أولاً بالإصلاح في مختلف مناحي الحياة. أما ثوراتنا فدخلت مراراً في خصومة مع الإصلاح بل واعتبرت التدرج أصلاً خيانة وهروباً. والنتيجة هي ما نراه. فالثورات العربية تماماً مثل مختلف المحاولات الإصلاحية العربية تنتهي بإعادة إنتاج المجتمع السكوني الخامل العتيق. ذلك المجتمع غير المستعد للإيمان أصلاً بدوره أو تصديق أنه مالك الوطن أو فهم معني قيم مركزية مثل التعايش والمواطنة والتسامح. وفي مثل تلك المجتمعات السكونية الجامدة لم يكن ولن يكون صعباً أن تُحبط الثورات وأن تعود الممارسات السلطوية المستبدة مراراً وتكراراً.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
21/08/2017
2490