+ A
A -
- أحياناً تُغلِق كتابَ الصَّوت لتَتَزَوَّدَ من الصورة بحكمة الصمت
- حظ تشارلي تشابلن من الشهرة لم يَكن ليُخْفي جُثَّةَ الحياة الثقيلة التي كان يَجرّها كالعربة.
في أكثر الأوقات لَسْتَ في حاجة إلى الكثير من الكلام لتُعَبِّرَ.. صحيح أن لسانَكَ قد يَخُونكَ بين الفينة والأخرى، لكنك أحياناً تُغلِق كتابَ الصَّوت لتَتَزَوَّدَ من الصورة بحكمة الصمت.
الصمت تَجِدُه في أكثر من مقام يُغني عن الكلام.. الصمت خَيْر مُعين على التعبير.. ولا يوجد باب واحد تنطلق منه في رحلتك إلى الآخَر.
التعبير له أكثر من باب ونافذة ومَدْخَل:
- نحن نَكتب لِنُعَبِّر..
- هناك مَن يَرسم ليُعبر..
- هناك مَن يَنسج ليُعبر..
- هناك مَن يُطَرِّز ليُعبر..
- هناك مَن يُصَوِّر ليُعبر..
- هناك مَن يَقصّ ليُعبر (القَصّ من المقصّ، والقصّ من القصة)..
- هناك مَن يَرقص ليُعبر..
- هناك مَن يَعزف موسيقى ليُعبر..
- هناك مَن يَصبغ ليُعبر..
- هناك مَن يَضحك ويَبكي بالْمِثل ليُعبر..
وعلى ذكر الضحك والبكاء تَجِدُنا نَقِف عند رصيف الإيماء لرَسْم حدود التعبير بالشكل الذي يُريد له صاحِبُه تَبعا للظروف والمناسَبات والأسباب التي تَدعوه إلى استخدام عصا الحركة والإيماء لأداء أكثر من مهمة..
كَم كُنّا صغارا ذَوَّاقين ونحن نَتَلَذَّذ باكتشاف طَعم الحياة في كعكة السينما الغربية التي تَحمل توقيعَ الضاحك الباكي نَجْم الكوميديا السوداء في زمن الصمت: «تشارلي تشابلن»!
تشارلي تشابلن لِنُسَمِّه الأسطورة زمن الأبيض والأسود قبل أن تُصِيبَنا حُمَّى الألوان بالعَمى والعته والهذيان..
تشارلي تشابلن هذا قبل أن يَبزغ نجمه لم يكن أكثر من مأساة تمشي على قدمين.. لماذا؟! لأن الظروف التي مرّ بها صاحِبُنا منذ وَعَتْ عيناه نورَ الحياة لم تَكُن سهلة، بل لم تَكُن مُشَجِّعَةً على اكتشاف مواهبه وإخراج قُدُراته إلى الوجود..
لكن مَن يَقول لنا هذا الكلام؟!
إنه التاريخ الحافِل بالبطولات والخيبات، بل لِنَقُل إنه التاريخ الذي يَجعل التجربةَ الْمُرَّة تَرفَع صاحِبَها لتُتَوِّجَه بَطلاً على مَسْرَح الخيبة..
وهنا نَفتح قوسا لِنُؤَكِّدَ أن المبدعين المساكين، (قريباً مِن/ بعيداً عَن السينما والمسرح) كثيراً ما تَقِفُ كالغصّة في حَلق الواحد منهم مُلُوحَةُ بحر الحياة الذي يَأخذ أكثر مما يُعطي، يَأخذ منك أعزّ ما عندك إن لم يَأخذ حياتَك كاملة..
هؤلاء المتعَبون يَجْتَرِحونَ الحسرةَ والألم قُبالَةَ المواقف الصعبة التي تُشْبِه كثيراً حَدَّ السيف أو فُوَّهَة البندقية، إذ قد يُصَوِّر لكَ عقلك أنكَ تُصَوِّبُها بعيداً عنك، لكنها من حيثُ لا تدري أنتَ تَجِدها تنال منك، فعِوَض أن تَنتفع بها تُرْدِيكَ قتيلاً أنتَ الذي لا تتصور يوما أن تَكون أنتَ الضحية..
ما يَدفعه المبدعون من أرواحهم يُذَكِّرُكَ بما تَدفَعه الشمعةُ قبل أن يشعّ منهما (المبدعون والشمعة) الضوءُ، الضوء الذي يَستفيد منه الآخَر دائماً، ويَكفيهما منه نصيبهما من الذوبان..
حظ تشارلي تشابلن من الشهرة لم يَكن ليُخْفي جُثَّةَ الحياة الثقيلة التي كان يَجرّها كالعربة قبل أن يَبتسم له هذا الحظُّ.. وانظروا كيف أن هذا الرجُل البَطَل الذي نجح في تقمص أدوار الصعاليك والمتشردين لم يَكن بعيداً عنهم..
تشارلي تشابلن لِمَنْ لا يَعرف قصةَ حياته هو لم يَنزل من كوكب آخَر ليُصافِح صُنَّاعَ الحُزن في الشوارع النائية عن دِفء مدينة القلب الكبيرة بالحُبّ خلف الكاميرا، لماذا؟، لأنه كان واحداً من هؤلاء البُؤَساء على أرض الواقع قبل أن تُصَفِّقَ له الدنيا بضربة سِمْسِم لتَفتحَ له بابَ مَغارة الْمَجد..
والسؤال الذي لا شَكّ في أنك ستَسأله يا صديقي هو:
لماذا ننتقص من شأن الْمَجد ونُصَوِّره على شكل مغارة؟!
ويأتي الجوابُ مُهَرْوِلاً ليَقول بنفسه:
ما كان الْمَجْدُ في حياة تشارلي تشابلن أكثر من مَغارة تُفْضي إلى غبار وسديم، لسبب واحد هو أن نهاية تشابلن كانت بائسة كالبداية: اتهامات، إشاعات، ولَيْل نِسيان يرخي أسدالَه.. فكيف لنا بالتالي أن نَتحدث عن صَرْح زائل وسراب؟!
انقضى عهد الْمَجد ورَحَلَ حِصانه، لكن ما تركه لنا تشارلي تشابلن لم يكن بالشيء القليل أو الهَيِّن..
من الجحود ألا نعترف بأن تشارلي تشابلن قد رسم الابتسامة في وجوهنا ونحن صغار في عمر الزهر، بل أكثر من ذلك دَرَّبَنا المسكين على الحركة بالطريقة التي يَتَفَنَّن فيها هُوَ ويُجيدُها..
الحركة وما وازاها من تنقلات على طريقة تشارلي جَعَلَتْنا نَجتهد في محاكاة ما رسمه تشارلي مِن عوالم تأسيساً على فَنّ الإيماء..
فن الإيماء لا يَختلف اثنان في أنه يُمثل ركيزة ودعامة بالنسبة لِمَن يعتكفون في مَعْبَد المسرح ليُزاوِلوا أَحَبّ الأنشطة إلى قلوبهم..
هذه الشخصية الغريبة المبهِرة (تشارلي) وقدراتها الكبيرة على توليد الطاقة الجسدية جَعَلَتْ مبدعين آخرين يَجتهدون في محاولة تقليدها، وهنا يَكفي التذكير بالممثل أنور وجدي..
ولذلك وَجَدْنَا وجدي في عرض من العروض السينمائية يُجسد مشهداً نتفق جميعاً على أنه تكرار لما سبق أن قدمه تشارلي الذي ظل مُخْلِصاً لنَصِّه الجسدي، مُعْلِناً ثَورةً على الكلام، حَريصاً على أن تَكون الصورةُ الناطقة سَيِّدةَ الْمَشْهَد بَدَل النص اللساني..
هذا التكرار للفُرْجَة التي صَنعها تشارلي يُبَيِّن لنا إلى أيّ درجة بلغ بالْمُقَلِّدين والمتابِعين الإعجاب بشخصية تشارلي السينمائية التي ظَلَّ هو نفسه مُعْجَباً بها، فسَارَ على نَمَطِها لوقت طويل..
اجتهاد تشارلي تشابلن قَلّ نظيره يقيناً، بل جاءَ في ظروف لا تُشَجِّع على الاجتهاد ولا تَسمح بإطلاق العنان للقدرات والطاقات الذاتية الفياضة. وهنا يَنتصب السؤالُ:
كيف يعقل أن يَتَفَرَّغَ هذا الرجُل البريطاني المتسكِّع في بداية حياته ليُفَصِّلَ على مقاس رغباته شخصيةً كوميدية راسخة في الذاكرة؟!
من أين جاء هذا الرجُل الفقير بحكمة الصبر لِيَرْعَى ما سيَجْنِي ثمارَه لاحِقاً ويَضمّ اسمَه إلى لائحة الموهوبين الذين بَنوا أنفسَهم بأنفسِهم؟!
كيف يُمكنك أن تُفَكِّرَ في حقيقة الابتسامات التي رَسَمَها تشارلي على وجوه الملايين وهي (الابتسامات) تُضْمِر الْمَآسي والأوجاعَ وسنواتِ الضياع والحرمان التي قَبعَ هو تحت مظلَّتِها خائفاً مَذعوراً؟!
تشارلي تشابلن عانى من تَبعات الفقر الْمُدْقع وسقوط السقف الأُسَري نتيجة انفصال والديه وصولاً إلى إحباط أُمِّه ودخولها في أزمات انتهت باختلالها عقليا وملازمتها للمصحات..
الدَّرْس والعِبرة هنا: فوق نهر الألم يُمكن أن نَمدَّ جِسرَ الأمل الذي يَقودنا إلى بَرّ النجاح، لكن لا تَنْسَ يا صديقي مرة أخرى أن للنجاح ثمنا، والثمن هذا قد يُكلِّفُكَ حياتكَ.

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
12/08/2017
2844