+ A
A -
عندما كنت أقوم في أول محاضرة لطلبة الصف الأول الجامعي بتعريف معنى علم الاقتصاد والمشكلة الاقتصادية. وبعد أن أشرك الطلبة في الإجابة عن سؤال ما هو علم الاقتصاد؟ كنا نصل إلى انه أحد فروع العلوم الاجتماعية التي تبحث في محاولة الإنسان أن يشبع حاجاته المتعددة والمتزايدة واللانهائية من خلال موارده المحدودة والقليلة والنادرة نسبيا. وكنت أوضح للطلبة أن هذا الاختلال بين الحاجات والموارد هو ما يخلق «المشكلة الاقتصادية» والتي يسعى الإنسان في جميع الاماكن والازمان إلى حلها.
الأمثلة على الحاجات تبدأ من الأساسيات الطعام والملبس والمسكن ولكن بمجرد اشباع هذه الحاجات الأساسية يبدأ الفرد في ابتغاء أشياء جديدة كوسيلة تنقل قد تبدأ بالدراجة ولكن سرعان ما تتدرج للسيارة. فإذا حصل الإنسان على السيارة فهو ما يلبث أن يطلب الأكبر. وإذا أعطي الأكبر فهو يسعى للحصول على الأسرع. وإذا أعطي الأسرع فهو يبتغي الأفخم. فاذا حصل عليها فسيطلب ذات الدفع الرباعي للخروج بها إلى الصحراء. وإذا حصل على ذلك فيتطلع إلى القارب أو اليخت وقد ينتقل منها إلى الطائرة الصغيرة. وهكذا لا تتوقف رغبات الإنسان الذي يرى ويقلد الآخرين عند حد.
أما الموارد أو عناصر الإنتاج التي نستخدمها لإشباع هذه الحاجات فإننا نحددها بأربع. أولا: عنصر الأرض أو ما يمكن أن نطلق عليه الموارد الطبيعية. ثانيا: عنصر العمل أو القدرات الجسدية والعقلية التي نستخدمها في الإنتاج. ثالثا: عنصر رأس المال ونقصد به الماكينات والآلات والأدوات والمصانع التي تستخدم في العملية الإنتاجية. وأخيرا: عنصر رواد الأعمال الذين يقومون بخلط العناصر الثلاثة السابقة معا فيما يسمى تكنولوجيا إنتاجية تخلق السلع والخدمات التي تشبع حاجات الإنسان. وبينما مازال كثير من زملاء المهنة يدرسون للطلبة نفس المفاهيم وما زالت الكثير من الكتب التي نعتمدها للتدريس- وبخاصة في عالمنا العربي- تحمل نفس التعريفات والتقسيمات فإنى اعتقد انه حان الوقت لتغيير التعريفات الخاصة بعناصر الإنتاج لتتماشى مع واقعنا الحالي الذي يتميز بثورة الاتصالات والمعلومات وما يطلق علية «اقتصاد المعرفة».
حتى يتم فهم المقصود دعوني أسرد عليكم قصة حدثت منذ حوالي ثلاث سنوات وبالتحديد في فبراير 2014 عندما قامت شركة «فيسبوك» بشراء شركة «واتس اب». المبلغ المدفوع في هذه الشركة الناشئة آنذاك هو 19 مليار دولار أميركي. هذا هو أعلى سعر تم دفعه لشركة ناشئة وأكثر من ضعف ما دفعت شركة «مايكروسوفت» في شركة «سكايب». في فبراير 2016 كان عدد مستخدمي «واتس اب» يربو على المليار مستخدم. نظرا لهذا المبلغ الضخم، والعدد الرهيب للمستخدمين قد تعتقد أن «واتس اب» هي شركة عملاقة. والحقيقة غير ذلك تماما. «واتس اب» تستخدم 55 موظفا فقط بمن فيهم الاثنان المؤسسان الشباب (جان كوم وبراين أكتون). وهكذا لا تأتي قيمة «واتس اب» من صنع أي شيء. انها ليست بحاجة إلى تنظيمات ادارية واسعة وعناصر الإنتاج التقليدية من ارض ورأسمال وعمالة لإنتاج خدماتها التكنولوجية أو توزيعها. بدلا من ذلك تأتي القيمة من اثنين من العناصر (الأول هو التكنولوجيا البسيطة ذات التطبيق القوي) أي الفكرة!! و(الثاني هو تأثير شبكة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على الناس-NETWORKING) الذي يعتمد على أن استخدام مجموعة من الناس يؤدي إلى ان المزيد من الناس يريدون استخدامها. والسؤال كان: من الفائز في قصة بيع «واتس اب»؟ الإجابة أولا: الموظفون الخمسة والخمسون الذين أصبحوا اصحاب ملايين والاثنان المؤسسان اللذان الآن مليارديران بين ليلة وضحاها. ثانيا: نحن مستخدمي الخدمة. نحن أيضا الفائزون لأننا نستخدم وسيلة أكثر كفاءة في التواصل مع بعضنا البعض مهما بعدت المسافات وتغيرت الاماكن.
العبرة هنا أن عناصر الإنتاج لم تعد العناصر الاربعة التقليدية التي ذكرناها آنفا. رأس المال التقليدي (ماكينات وأدوات ومصانع) فقد أهميته. المهم الآن هو «رأس المال البشرى». العقل الذي يجلب الفكرة أو يحاول ايجاد أفضل تطبيق لها. مجرد فكرة وحجم قليل من رأس المال المادي يمكنهما الآن أن يكونا عنصري الإنتاج الوحيدين المطلوبين لإنشاء الشركات. لا الارض مطلوبة ولا العمالة مطلوبة كما كانت من قبل. شركة «آبل» وكيفية نشأتها في جراج أيضا مثال وهناك مئات الأمثلة المشابهة.
العبرة الخطيرة أيضا أن الاقتصادات الحديثة والناشئة، لم تعد تخلق الحجم المطلوب من الوظائف. نسبة الموظفين للعملاء في «واتس اب» وصل إلى 55 موظفا لكل مليار عميل!! المستقبل أصبح أصعب في خلق الوظائف والحل الوحيد المطروق الآن هو الاستثمار في رأس المال البشرى (التعليم ثم التعليم ثم التعليم)!

بقلم : حسن يوسف علي
copy short url   نسخ
26/07/2017
37215