+ A
A -

صَبَوَات يَحملها النسيمُ العليل إلى حيث يَشاء الهوى من مدينة مَآذِن العطر الروحي والأَلَق الوجداني ريحانة المغرب العاصمة العلمية العريقة فاس، تتسلل إلى مُدُن القلب ضَوْءا يَليقُ به كُلُّ الحضور.. صَبَوات مسار حافل بالعطاء يَختزله اسم المغربي عبد الرفيع جواهري.
عبد الرفيع جواهري اسم لَنْ يَتكررَ، يَضرب جذورَه في ذاكرة الأغنية المغربية وقد تَأَلَّقَ في زمن قيثارة المغرب الناعمة الكبير محمد الحياني الذي حَلَّقَ بكلمات «راحلة» الأغنية المزروعة في قلب الذاكرة المغربية..
كلمات «راحلة» كان محمد الحياني قد قَطفها من حدائق شِعر عبد الرفيع جواهري، وإذا بالذَّوَّاق عبد السلام عامر يُثَمِّنُها بِلَمَساتِ لَحْنِه الساحرة لِيُغَلِّفَها بمسحةِ حنين تَنساب أهداب منديله ويَلُفُّها بشرائط وردية تَعزف على أوتار الأُذن الموسيقية التي تَقرأ فيها ملحمةَ الحُبّ الطافِح بالألَم..:
«وأنتِ قريبة/أَحِنُّ إِليكِ/وَأَظْمَأُ للعِطْرِ/للشمسِ في شَفَتَيْكِ../وحِينَ تَغِيبينَ/يَغْرَقُ قَلبي في دَمعاتي/وَيَرْحَلُ صُبْحي/تَضِيعُ حياتي/ويَشحُبُ في أَعْيُنِي الوردُ../والدالية../وتَبْكِي العصافير../والساقية../وهذا المساء../وحُمرتُهُ مِن لَظَى وَجْنَتَيْكِ/يُحادثني الصَّمْتُ في مُقْلَتَيْكِ/ونَظْرَتكِ الحلوة الذابِلَة/لِأَنَّكِ عَن حَيِّنَا راحِلَة../فَهَلْ يَرْحَلُ الطِّيبُ مِن وَرْدِهِ؟/وَهَلْ يَهْرُبُ الغُصْنُ مِن ظِلِّهِ؟/أَحَقّاً كَمَا تَرْحَلُ الشمسُ هذا الْمَساء؟
تُرَى تَرْحَلِينْ؟/وفي لَهَفَاتي وَلَحْنِي الحزينْ/يَمُوتُ انْشِرَاحِي /تَنُوحُ جِراحِي /وفِي الحَيِّ/في كل دَرْب/سَأَرْشُفُ دَمْعِي /سَأَعْصِرُ قَلْبي../وَأَنْتِ بَعِيدَة /لِمَنْ يَا إِلَهَةَ فَنِّي /لِمَنْ سَأُغَنِّي؟» (عبد الرفيع جواهري، راحلة، شعر).
مَنْ سَيُسْكِتُ مَدامِعَ الإحساس، ومَنْ سَيُطْفِئُ جَمْرَ الأنفاس، حين يَلْسَعُكَ تَيَّارُ الحُبّ الذي يَتجاوز الكهرباءَ بكهرباء؟!
أكثر من الروعة الفنية نَلْمِسُ صِدقاً قَلَّ نظيره في رائعة الثلاثي العبقري (محمدالحياني وعبد الرفيع جواهري وعبد السلام عامر)، إنه الصدق الذي يُعادِل محيطا يَسبح فيه القلبُ الْمُعذَّب، ومهما نال منه ملح المحيط يُبالِغ القلبُ في السباحة لتنتشي أنتَ..
عصفور الحُبّ الطليق يُقَصْقَصُ ريشُه ويُذْبَح، هكذا يمكن اختزال التجربة التي يَبلغ فيها الصدقُ الفني مبلغَ التسامي مُوازاةً مع النضج الذي يعكسه القالَب كتابةً مع عبد الرفيع وقُدُراتٍ لحنية ومهارات مع عبد السلام وأداءً صوتيا مع محمد..
إنها قِمَّةُ الرُّقي اللغوي (السابح في بحر المعاني الغَرّاء) والثَّرَاء الفني الباذخ الذي يَعكسه صوتيا الأداء الْمُبْهر للراحل محمد الحياني وهو يَنقلك في معزوفةِ ضَوْءٍ وظِلٍّ إلى فضاء أسطوري لَوَّنَه الراحل عبد السلام عامر من وحي إشراقاته.. عبد السلام عامر صاحب الطريقة الفريدة في صناعة اللحن الذي يَموت صاحبُه ولا يموتُ (اللحن)..
عبد السلام، الغارِب عن دنيانا، لفلسفة اللحن عنده طقوس لا يُخطئها الحضور.. هو ذا عبد السلام يَتراءى لنا من وراء عالَم الثرى موارب الباب يَسْتَرِقُ النظرَ بحكمة بصيرته الثاقبة مُعايِنا الْمَشْهَد الطَّرَبي هو الذي عَبَرَ حدودَ الوطن العَرَبي باحثا عن زهرة الخلود لِلَحْنِه الذي يَنثال كقصيدةِ ماء يَكتبها قَلَمُ السماء..
الملحن المغربي الرقيق عبد السلام عامر يَتَأَبَّطُ مرة أخرى نَصّاً دافِقَ الإبداع للشاعر المغربي عبد الرفيع جواهري لِيُتْحِفَ الآذان السميعة بِتُحْفَة غنائية أخرى تَرَاقَصَت لها النفوس وطَرِبَتْ في مشارق الأرض ومغاربها ومازالتْ، إنها رائعة «القمر الأحمر»:
»خَجُولاً أَطَلَّ وراء الجبال وجَفْن الدُّجى حَوله يَسهرُ
ورَقْراق ذاكَ العظيمُ على شاطئيه ارتمى اللحنُ والْمِزْهَرُ
وفي مَوجهِ يَستحِمُّ الخلودُ.. وفي غَوْرِهِ تَرْسُبُ الأَعْصُرُ..
خَشُوعاً أَطَلَّ كَطَيْفِ نَبِي.. وفي السفحِ أُغنية تُزْهِرُ
تُوَقِّعُها رَعَشاتُ الغُصونِ يُصَلِّي لها لَيْلُنَا الأَسْمَرُ
عَلَى الرَّبَوَاتِ اسْتَهَامَ العَبِيرُ.. تَعَرَّى الْجَمَالُ.. شَدَا الْوَتَرُ(..)» (عبد الرفيع جواهري، القمر الأحمر، شعر).
«القمر الأحمر» هي الرائعة الطربية التي خرجَتْ إلى النور بصوت حنجرة دافئة تَأَلَّقَ بها صاحبها عبد الهادي بلخياط.. «القمر الأحمر» حصدَت الإعجابَ وفتحَت البابَ لتتويج الإبداع المغربي عربيا..
الشاعر المغربي عبد الرفيع جواهري شاعر أنيق اللغة، رقيق الكلمات، فَيَّاض المشاعر.. يَحمل في كَفَّيْهِ وُرودَ الزمن الجميل ويُحَلِّق ماضيا إلى حيث تُريدُ له اشتهاءاتُه في حقل المعاني..
في حقل المعاني يَنحني عبد الرفيع جواهري لِسَنابِل الحروف الممتلئة مُبَشِّراً بمواسم الشعر النَّدِية الدافئة، المواسم التي يَحْلو فيها سَمَر صُنَّاع المعاني ويَطيبُ الحَصاد، حَصاد ما لَذَّ وطابَ مِن حَبِّ الحُبّ..
المغرب الصَّرْح الكبير الذي بَنَاهُ رِجال العِزّ والبطولة أعطانا (ومازال) من حُمَاة الإنسانية وبُنَاة الفكر والوعي ورجال الكَلِمة وأهل الشعر والأدب (رجال ونساء) ما يُعطيه الربيع للطبيعة..
عندما يُذكَر محمد الحياني، وعبد السلام عامر، يُذْكَر عبد الرفيع جواهري المنارة الشعرية المنتصِبة القامة المنفتحة على كل الواجهات، جواهري هو الصومعة الشامخة التي يَرتفع فيها صوتُ الجَمال الفني، هو الشجرة الوارفة التي تُعَشِّش فيها عصافير الموهبة كما أنتَ تَتَمنَّاها..
المغربي الجميل الحِسّ عبد الرفيع جواهري يَرسم بأنامله (الأنامل الشاعرة بمسؤوليتها في مؤسسة الكَلِمَة) حُدودَ مدينة القلب التي يَتألق فيها الإحساس فيُلهِب الأنفاس التي تَنحني لأسراب الهوى والهواء تُقاسمهما فَوْرَةَ الانتشاء..
عبقرية المغربي عبد الرفيع جواهري تَكمن في التشكيل بالحروف التي يَحرص على تطويعها بين أنامله ليجعل منها فرشاة تَرسم بألوان الكلمات أعظم لوحات لا يَجِدُ أمامها المتلقي إلا أن يُسَجِّلَ إعجابَه وهو يَنحني لِمُبدِعها.
هذا عبد الرفيع جواهري يَرتقي بإيقاع شِعره لِيُبْدِعَ لنا موسيقى روحية تَعْبَقُ بها رُوح مَن يَتَلَقَّفها.. هو مَنْ أَسَّسَ لِمَدْرَسَة في الشِّعر الغنائي لا تَحُدُّها حُدود ولا يَقِف في وجهها عائق، لذلك اجتازَتْ قصيدتُه الْمُغَنَّاة المسافات ضاربةً لعشاق الكلمة واللحن والأداء مواعيد لا تَنقضي..
اِنْقَضَتْ أَزْمِنَة تَجُرُّ أزمنة، ومازال وَقْع الـ»راحلة» الأغنية مُفَجِّراً لعظمة مخيال ما تَرَسَّخَ في القلب والذاكرة من حَيّ الحُبّ الْمُقْفِر برحيل وَرْدِه كما جَسَّدَهُ عبد الرفيع جواهري كِتابةً تُقاوِم الزمنَ وعبد السلام عامر لَحْناً يَحملك على بساط الحُلم ومحمد الحياني صَوْتاً لا تُخْطِئُه العاطفة..
شيء من اليقين في عودة البنفسج إلى دائرة الضوء لن يَخونَكَ، فبين النار والألم لكَ أن تَنجو بروحك. فهل تُخمِّن ما تَكون الكلمة المفتاح؟!
الكلمة المفتاح قَلْبُكَ، قلبُكَ الذي سَتُفَكِّر في أن تَزرعه في نهرٍ الأملُ فيه مِياه مهما تَرَاءَتْ لكَ ضِفَّتَاه أكثر صلابة وأكثر حدة.. لَكَ أن تُمَنِّيَ نَفْسَك بِمَوْعِد مع عِطر البنفسج، لا تَنْسَ فقط أن تَزرع قلبَك أغنية، أغنية تَتناقلها العصافير في السماء والحصى في الماء وقطرات الدماء:
»إِنّي سَأَزرع قلبيَ المشروخ
بين الصخر والأشواك
بين النار والألم العظيم
فلينبثق ذاك البنفسج من جديد
ليَقول للعشاق:
ها لوني الذي ما خان يوماً عِطْرَهُ
ها وعديَ المعقود
بين الصخر والطعنات آهٍ فاكتبوا
كل القصائد من دمي» (عبد الرفيع جواهري، وعد البنفسج، شعر).
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
22/07/2017
3811