+ A
A -
لا أقول من أين أبدأ وأين أنتهي؟ فهذه عبارة توحي بأني أدلّ الطريق، بل أقول كيف أبدأ وكيف أنتهي، ففي مقامٍ كهذا يتضاءل المقال، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

رحل سعد بن جدلان، الشاعر الداهية والأسطورة المتناهية، رحل بهدوء متسللاً من بين ضجيج قصائده التي «قرأها الأعمى وسمعها الأصم» على رأي زميله المتنبي، وسكت عن الكلام المباح ورفعت أفلامه وجفّت أوراقه «ما كن جرى له ساعة في ظهرها» على رأي مشعان الهذال رحمه الله.

رحل بدوي بيشه وهو يدعو ربّه الكريم بفطرة البدو الرحّل:

لا قفّت مجاهيم عليها مزاهب طيب

يالله في مغاتير تدخلني الجنّة!

على أنه كان دائم الابتهال إلى الله في أشعاره بطريقة سهلة معجزة، لم تقل عن مستوى الحكمة الراسخة في كل قصائده، مما يجعل الأمر غير معقول إذا تأملنا إبداعه في الغزل، فكيف لشاعر واحدٍ أن يتقسّم بعدالة حادة بين كل هذه المواضيع المختلفة، ليُبدع ويُعجز ويترأس سادة النطق فيها. فلا عجب إذاً، إن حيّر العلماء وأبكى عيون البسطاء، وألف بين قلوب الشعراء.

فالعلماء يرددون أبياته في الحكمة والابتهال بشغف المعجب، والبسطاء يهيمون معه حيث هام، والشعراء التفوا حوله وبايعوه زعيماً لقبيلة الشعر، على اختلاف مذاهبهم الشعرية وتمايز مناسبهم التذوقيّة، رغم أن إجماع الشعراء أمرٌ مستحيل، كاجتماع القمر والشمس في سماء واحدة فوق أرض واحدة في منتصف النهار مثلاً.

وأعتقد أن سعد بن جدلان مثال حي لبيت أمير الشعراء أحمد شوقي: «أنتم الناس أيها الشعراء»! فمن يقرأ سعد بن جدلان يجد أنه مزدحم بالناس، بأرضهم، بدينهم، بعواطفهم، بغضبهم، بحكمتهم، برضاهم، بسخطهم.

فهو القائل حلماً:

يدك لا مدّت وفا لا تحرّا وش تجيب

كان جاتك سالمه حبّ يدك وخشّها

وهو القائل غضباً:

لولا مجننا كلتنا المجانين

تطمع بنا الجهّال لولا جهلنا

وهو القائل حكمةً:

لا انقفل باب من الرزق حرّاسه وقوف

فتّحت بيبان الأرزاق من كل اتجاه

وهو القائل وصفاً:

بياض وجهه يغلب أكثر حماره

يشبه غضب محشومة دمّها حار

وهو قائل كل الإبداع، وبهذا خلّد كل ما قال، أخذنا منه سحر البيان وأخذ منا الحب والعرفان، والله ندعو أن يرزقه العفو والغفران، فإلى خلد الجنان يا سعد بن جدلان.



بقلم : صلاح العرجاني

copy short url   نسخ
06/05/2016
4042