+ A
A -
من الدروس المستخلصة من الأزمة الخليجية الجارية ما كشفته من تحديات يواجهها «التواطن» في عالمنا العربي. و«التواطن» لفظ جديد أشتققته من كلمتي «التعاطف» و«المواطن». التواطن بالتالي هو التعاطف مع المواطن. ويسمى «متواطناً» كل من يبدي تعاطفه حيال عذابات غيره من المواطنين سواء في بلده أو في بلاد أخرى غيره أن يرفض مثلاً سجنهم واعتقالهم أو حصارهم ومصادرة حقهم في التعبير، وقد كان لفرض الحصار على قطر الفضل في تسليط الضوء على أزمة التواطن في منطقتنا.
فقد صدرت تعليمات مشددة في دول المقاطعة حذرت من التواطن وجرمت التعاطف مع القطريين بعد أن فرض عليهم الحصار، وجرى تغليظ العقوبات وتعددت وسائل الرقابة في دول المقاطعة على كافة أشكال التعبير التي قد تشي بالتواطن مع هموم وآلام المواطنين والمقيمين في قطر.
والأصل في الحكمة العملية أن التواطن ليس بحرام بل حلال صرف، إذ لا يمكن منع الناس من إبداء مشاعرهم بالذات في وقت الأزمة والضغوط. والأصل في الأشياء أيضاً أن تُحترم الخطوط الفاصلة بين السياسة والمجتمع حتى لا يدفع الناس بلا ذنب ثمن أخطاء السياسيين، لكن في منطقتنا العربية ما يزال التعنت المزاجي يتعامل مع مشاعر الناس حتى لو كانت تلقائية على أنها باطل، ولهذا جرى منعهم في دول المقاطعة من التعاطف مع مواطني قطر ومقيميها. منعوهم من التعليق على وقف إمدادات الغذاء والماء والدواء، قالوا لهم لن تكون بيننا وبينهم تجارة ولا زيارة ومن يرفض سنعاقبه، قالوا ان القطريين لا يستحقون غير الحصار براً وبحراً وجواً ومن ينتقد تلك الخطوة سيعرض نفسه للخطر، فبعد أن حاصروا قطر حاصروا مجتمعاتهم ذاتها وجرموا عليها التواطن مع قطر، اعتبروه جريمة بلغت عقوبتها في بعض الحالات الحبس لخمس عشرة سنة، لكن كثيراً من الناس كانوا يتواطنون إما سراً أو رمزاً أو مجازاً، وفي حالات جازف البعض فتواطن علانيةً معبراً عن رأيه في أزمة ما كان عقل عربي يصدق أنها ستقع بين دول الخليج بشكل خاص.
وأجمل ما في التواطن أنه يحاول تصحيح أخطاء عميقة في بنية الحياة العربية وأن يحرر المجتمع من قيود السياسة في الحالات الإنسانية الدقيقة وأن يدعو إلى فصل المشكلات بين القادة عن روابط وتفاعلات الشعوب. لكن التواطن لم يكن ليسمح به في الدول المقاطعة ليس فقط من أجل رفع سقف الضغوط على قطر وإنما لمنع تحوله إلى مسلك شائع في الدول المقاطعة نفسها.
فالتواطن مرفوض في بعض البلدان سواء حيال مواطني بلد آخر أو حيال مواطنين في الداخل يتعرضون للتضييق أو الاضطهاد أو الظلم، فلو سمح بالتواطن مع مظالم أناس في الخارج فقد يُطالب بالسماح به في الداخل كذلك، وذلك أمر ترفضه آلة القهر التي اعتادت أن تتصرف كما يحلو لها مهما كان الضرر الواقع على المجتمع.
ثم إن التواطن جزء لا يتجزأ من الحرية والديمقراطية، يقدر التسامح ويحث على عدم المبالغة في الخصومة. وتلك أمور لا يبدو أنها كانت حاضرة في خلفية من قام بتفجير الأزمة الخليجية الجديدة من البداية. وبما أن الديمقراطية والحرية والتسامح من المحرمات في السياسة العربية فلم يكن منتظراً من بعض بلدان المقاطعة غير منع المواطنين من التواطن مع قطر وأن يعاقب كل من ظهرت عليهم علاماته. فباسم الضرورات جرى قمع التواطن والمتواطنين.
إن الأزمة الخليجية الراهنة ليست مجرد مشكلة استراتيجية ستكون لها تداعياتها بعيدة المدى وإنما هي أيضاً مرآة لحالة بنيوية رثة يعيشها العقل العربي المترع إلى الآن بالغل والانتقام والقسوة والضغينة، إنها حالة جديدة كاشفة لعقلية تكتسي زوراً بشعارات المحبة والإخاء، تقلد المتقدمين في كلماتهم الحلوة عن الديمقراطية والتعددية لكنها توغل في اغتيال كل المعاني الإنسانية الطيبة حتى لو كانت بسيطة مثل التواطن.
وبحق الله ما الخطأ في أن يرق قلب الإنسان فيتعاطف مثلاً مع ضحايا الإرهاب في مصر والمتضررين من الحصار لقطر والمعذبين من أهل غزة والفارين من جحيم سوريا.
التواطن ليس جريمة تستحق العقاب وإنما فضيلة تستوجب الدعم، تواطنوا تحابوا حتى يتمتع المجتمع بمساحة حرة يتنفس ويتفاعل فيها بعيداً عن جبروت السياسة، تواطنوا حتى لا تشيع القسوة بأيدي الناس بعد أن شاعت على يد الساسة، تواطنوا حتى يبقى للمشاعر الإنسانية النبيلة الغلبة على الأحاسيس الصخرية المتبلدة، تواطنوا يرحمنا ويرحمكم الله.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
10/07/2017
2754