+ A
A -

الحَبّ الذي يُطْحَن أنتَ، وأنتَ الزاهد في الحَبّ في غياب أشجار الحُبّ التي تَدْعُوكَ برِقَّة ورُقي بَالِغَيْن إلى أن تَستظلّ تحت فَيْئِها..
فَيْء ويا لَه مِن فَيْء!
أشجار الحُبّ يُنْسِيكَ صُدَاح عصافيرها (صوت العصفور الغِرِّيد مرفوعا ومُطْرِباً) لفحاتِ محْرَقَة الزمن الذي يَجدّ ويَجتهد لينال منكَ أنتَ الشامخ بإبائكَ، كأنكَ كلما ابتسمتَ في وجهه كاتما صوت وجعك الدفين قامعا فَمَ الانكسار (انكسارك) أَفْقَدْتَه لَذَّةَ الانتصار (انتصاره).
عالَم اليوم، أو الْمَطْحَنَة كما يَطيبُ لي وقد يَطيبُ لَكَ أن تُسَمِّيه، أصبح حافلا بالأوجاع التي لا نَدري إذا كانت تُعَمِّق مفهومَ المأزق الحضاري الذي عَصَفَ بكينونة كائن اليوم (الكائن الناطق) أم تراها تُفَجِّر فيه طاقةَ الإبداع في ظِلّ نُضْجِ المخيِّلة التي تتسامى اشتعالا وتَقدُّمِ فنيات التصوير الذي لا تُخْطِئُه الدِّقَّةُ.
قد لا تَشغلك كثيرا هذه التفاصيل الصغيرة التي تَمُوجُ في بحر مُخَيِّلَتِكَ صُورُها، لكنها تَشغل يقينا باحثا عن اللذة الفنية من خلال اقتناص الصور والْمَشاهِد التي تَجود بها اللحظاتُ الآيلة لانطفاء كما قد تَنطفئ الشمعةُ، وكما تَنطفئ الشمسُ رُبَّمَا.
هذا القَنَّاص الماهِر الهارِب من مَحْبَرَة الوقت، وإليها، تُغْرِيه دقائق الأمور، وأَبْسَط التفاصيل، تلك التفاصيل التي قد لا تَتَحرك أنتَ قُبَالَتَها ولا تُحَرِّكُ فيكَ شهوةَ الاكتشاف أو تُحَرِّضُكَ على اكتشاف الشهوة..
التفاصيل التي تَعْبُرُها أنتَ، أو تَعْبُرُكَ هي راكضةً، تَأَكَّدْ أنها لن تَسْقطَ من عَيْن مُخَيِّلَة القَنَّاص الذي خَبَرَ أدغالَ الإبداع وغاباته، فإذا به لذلك يَعْرِف حقّ المعرفة مِن أَيْنَ تُؤكَل كَتِفُ الصورة أو الْمَشهَد الناضج في فرن الموهبة كرَغِيف مَحْشُوّ يَسِيلُ له لُعاب الباحِثِ عن اللَّذَّة..
عالَمنا يَكبر ويَتَّسع ويَتَمَدَّد، لَكِنْ لِنَنْظُرْ إلى تَصوير هذا العالَم!
بِقدر ما يَكبر العالَمُ يَصغر قالَبُ تصويره. لكن لِنَتَّفِقْ على أن صِغَرَ القالَب لا يَعني ضَيْقَ مساحة الأحداث والوقائع أو قِلَّة التفاصيل، لماذا؟ لأن ما قد لا يَنتبه إليه البعض هو قالَب التصوير المضغوط (وربما الْمُلَغَّم بما يَصدم)..
القالَب الإبداعي الذي حَقق ثورةً في زمننا هو قالَب القصة القصيرة التي لا يَشفع لها قِصَرها لتَخلو من فيض الصور وبلاغة التصوير..
قالَب بحجم الـقصة القصيرة (وربما القصيرة جدا) به مِن الثراء اللغوي والقيمي والوقائعي ما يَدفعك إلى أن تُصفِّقَ له بعقلك وقلبك، بل تُثَمِّن الأصابع التي نَحتَتْ فأَبْهَرَتْ بذوقها الفني الذي لا يُعْلَى عليه.
أن نَحترمَ القصةَ القصيرة ونُنَوِّهَ (دون ذِكر أسماء معينة) بنُجوم القَصّ على امتداد ربوع الوطن العربي وكذلك الضفاف البعيدة التي تَسمح بتداول خِطاب لغة الضاد يَعني أن هذا القالَبَ أَثَّرَ فينا كُلَّ التأثير..
لعل هذا التأثير مَرَدّه بالدرجة الأولى الإغراء الذي يُمارِسُه علينا هذا النمط من الكتابة المضغوطة، وهذا راجع إلى أن ما يُطلَب منا من التزامات في اليوم الواحد وما نحتاج إلى تقديمه من خدمات وما يُرْهِقُنا من إكراهات لا مجال للحيلولة دون مواجهتها يوميا يَجعل زمنَ الـ«24 ساعة» أَقْصَر من أن يَستوعبَ ما يَشغلنا ويَحتاج إلى أن نَتَفَرَّغَ له يوميا..
لذلك نُؤكد أن قالَبَ القصة القصيرة يُشَجِّع على قراءته وتَذَوُّقِه، وأكثر من هذا فإن في وسعك أن تُوَسِّعَ نطاقَ قراءاتك، إذ لن تَكون مُجبَرا في كل مرة على الرجوع إلى الوراء لتتذكر ما سبق أن قرأتَه بشكل متقطع في أزمنة سابقة حتى يَطيبَ لكَ الاسترسال في تتبع الأحداث أو الْمَحاوِر..
لكن لِنَنْتَبِهْ إلى نقطة بالغة الأهمية، إِذْ إِنَّ قِصَرَ هذا القالَب القصصي لا يَنبغي أن تَفهم منه أن من المستساغ أن يتدنى إلى مستوى التسطيح الذي قد يُشَجِّع أشباهَ المواهب على الانزلاق باقتحام هذا الجنس الأدبي والكتابة فيه دون عُدَّة..
الكتابة السردية لها أساليبها وفَنِّياتها وتِقنياتها فضلا عن الموهبة، وإلى جانب هذا لا يمكن مطلقا أن نُسْقِطَ من حساباتنا أهميةَ ودورَ الموضوع الهادِف الذي يَخْدُم ويَبْني..
كَوْن بحجم القصة القصيرة (أو القصيرة جدا) ثِقْ بأنه يُرِيكَ أحيانا كثيرة أنه يختزل رحلةَ إبحار قد تَكون على قارب قلبك أو على امتداد سُفُن الوقت في بحر العالَم الذي يَلتَهِم عُمرَنا قطعة قطعة..
كَوْن بحجم القصة القصيرة ما أجمل أن يُشَكِّلَ قطعة فنية لذيذة تَبتلعها في لحظات، لكنها لا تُغْنِيكَ عن مُتعة السفر في تأملها انتهاءً إلى رَفع القُبَّعَة للمخيلة الذكية التي تَعْمِدُ غالبا إلى إعادة قراءة ملفَّات الواقع لِتُفَلْسِفَها بحكمة الْمُصَوِّر المبدِع (من الصورة الشعرية إلى الصورة كنَصّ مرئي وفَضاء بصري)، أو لِنَقُلْ بشَطَارَة الفَنَّان الذي يُحاكي تَهَادي فَراشة أو هَذَيان نَحْلَة أو حركة طَيَران لِيُصَمِّمَ رَقصاتٍ تُخَلِّدُ العبقريةَ وتُمَجِّدُ شطحاتِ مُبدِع إنسان.
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
25/06/2017
2702