+ A
A -
أكرر دائماً العتب على قدر الخبرة والمعرفة (قياساً على: العتب على قدر المحبة) وأكرر دائماً أيضاً أن إيراد بيت من الشعر كشاهد على القول يحتاج من الكاتب أمرين اثنين، أولاً: أن يذكر اسم الشاعر، وثانياً: أن يورد البيت صحيحاً دون خطأ نحوي أو تركيبي أو عروضي.
قال الكاتب الذي أحب مقالاته وسميته «ذا اللغة الرشيقة» وهو كاتب مخضرم ذا خبرة صحفية طويلة «وكما غنت فيروز: ربي أعز الناس كلهم / سوداً أكانوا أم بيضا» وقد ارتكب هنا خطأين فادحين، فلم يذكر الشاعر، وشوه البيت تشويهاً فظيعاً يمكن أن يقاضيه الشاعر عليه.
البيت من قصيدة «غنيت مكة» التي غنتها فيروز بلحن الأخوين رحباني، والقصيدة من شعر «سعيد عقل» وقرأت يومها أنها من شعر شاعر متأثر بسعيد عقل ونسيت اسمه، وأذكر أنه «الرديني» أما صياغة البيت فتدل على تمكن كبير من اللغة والتركيب الشعري تقديماً وتأخيرا:
وأعـزَّ ربّي النـاس كلـَّهُـمُ
بيضاً فلا فرَّقت أو سودا
اقرؤوا البيت كما أوردته، وارجعوا إلى البيت كما جاء في مقالة الصحفي ولاحظوا الفرق بين الشعر واللاشعر.
كاتب آخر أشهر من الكاتب ذي اللغة الرشيقة يحب أن يعرض بعض الأبيات الشعرية، وفي مقالة له عرض أبياتاً لنصر بن سيار الذي كان والياً على خراسان أيام مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين، وقد أرسلها إلى الخليفة محذراً من العباسيين، والأبيات مثبتة في كثير من المصادر، وقد أورد الكاتب بعضها محرفاً، قال مثلاً:
فإن النار بالعود تُذكى/ وإن الحرب أولها كلام
وتلاحظون أن في البيت خللاً عروضياً لأن أصله:
فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب أولها كلام
ونقل أيضاً:
فإن لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام
والخطأ هنا في الشطر الثاني، والصحيح أن يكون «جثثاً وهاما» لأنها خبر يكون،
لكن الأصل:
فإن لم يطفه عقلاء قوم فإن وقوده جثث وهام
والضمير في «يطفه» وفي «وقوده» عائد على الوميض. وقال أيضاً:
فإن يك أصبحوا وذروا نياما فقل قوموا فقد حان القيام
وتلاحظون ارتباك الجملة لأن الأصل:
فإن يكُ قومنا أمسوا رقوداً فقل هبوا فقد حان القيام
وقال أيضاً، ولا معنى للشطر الأول:
فقري عن رحالك ثم قولي/ على الإسلام والعرب السلام
أما الأصل فواضح جداً:
تعزّوا عن زمانكمُ وقولوا على الإسلام والعرب السلام.
وقال الكاتب الشهير في مقال آخر «أعود إلى السياسة، وهي ما قال أبو العتاهية: يسوسون الأمر بغير عقل/ فينفذ أمرهم ويقال ساسة/ فأفٍ للرجال وأفٍ/ من زمن رئاسته خساسة» وهنا أخطأ مرات. نسب البيتين إلى أبي العتاهية وهما لأبي العلاء المعري، ونقل البيتين خطأ فكسر الوزن، ولا يمكن أن يخطئ أبو العلاء في العروض. قال: يسوسون الأمر بغير عقل، والبيتان من الوافر ولكنه أخرجهما بأخطائه من دائرة البحور، وأصله:
يسوسون الأُمورَ بغيرِ عقلٍ فينفُذ أَمرُهم ويقالُ ساسَه
وقال:
فأفٍ للرجال وأفٍ/ من زمن رئاسته خساسة
وأصل البيت:
فأُفَّ من الحياةِ وأُفَّ منّي ومن زمنٍ رئاستُهُ خَساسَه
وهذا كاتب مشهور آخر فاز ذات عام بجائزة أفضل مقال يومي ينقل بيتاً من الشعر فلا يكلف خاطره البحث عن الشاعر وصحة البيت، بل كتب: وكما قال شاعرنا الأندلسي:
لولا ملوحة ماء البكاء حسبت دموعي أنهارها
ولو أنه أتعب نفسه قليلاً لوجد أن البيت لواحد من أشهر شعراء الأندلس هو ابن حمديس الصقلي الذي نشأ في صقلية ومنها استمد لقبه، ثم هاجر إلى الأندلس، ومنها إلى إفريقية. ونقل البيت خطأ، وكسر الوزن الشعري، فالبيت من البحر المتقارب، لكن الكاتب بما فعل أخرجه من دائرة المائيات عامة، وأصل البيت:
ولولا ملوحة ماء البُكا حسِبتُ دموعيَ أنهارَها
لا أرى مانعاً من لجوء الكاتب إلى اللغة العامية إذا أحتاج إلى كلمة «قوية» التعبير، ولم يجد لها مرادفاً في الفصحى، وفي هذه الحالة يشترط أن يضع الكلمة بين قوسين، كيلا لا يختلط الأمر على القارئ ويحسبها من الفصحى، ولكن الكاتب ذا اللغة الرشيقة لجأ إلى العامية دون مراعاة هذا الشرط فقال «هنا الهناء وهناك التعتير» وسيفهم القارئ أنهما نقيضان، ولكن كلمات تعتير ومْعتــَّر (الميم ساكنة والتاء مشددة) وتْعتـَّر (التاء الأولى ساكنة والثانية مشددة) عامية، وحين يقارن بين الازدهار ونقيضه يمكن أن يورد البؤس أو التخلف أو الفقر أو الجمود، دون الحاجة إلى هذه الكلمة المغرقة في عاميتها اللبنانية والسورية.
قرأت مقالة فيها «فالحصاد تمّ، ووقت الرجاد حان، وسيقوم الجميع برجد حصاده إلى البيدر؟» والبيدر كلمة فصيحة وهي المكان الذي يجمع فيه القمح وغيره ليداس لفصل الحب عن القش ومنه المثل «حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر» أي إن الناتج لم يوافق المتوقع، فماذا عن رجد والرجد والرجاد؟ الرجْد غير صحيحة، لكن الفعل رجد والمصدر الرجاد صحيحان، نقول: رجَدَ الرجل رجاداً أي نقل حصاده إلى البيدر. ولا داعي لأن أسأل عن أصل الكاتب فهو بلا أدنى شك ابن فلاحين أو ابن منطقة ريفية زراعية.
كان الكاتب يتحدث عن «كلبة» متهمة عند الشرطة بأمر ما فقال «اعتقلوها، وأخذوا نسخة عن بصمات حوافرها»، وصحت: يا للمصيبة، لا يعرف هذا الكاتب الفرق بين «الكلبيات» وهي فصيلة من الثدييات من اللواحم، وتشمل الكلب والذئب وابن آوى وغيرها، و«الحافريات أو ذوات الحافر» وهي فصيلة أخرى تضم الحمار والحصان والبغل وغيرها. هذه معلومات يعرفها طلاب الأول الثانوي.
قال أحد الكتاب «وأعابوا عليَّ نشر الصورة» والخطأ الذي لا يجوز أن يقع فيه مبتدئ هو استخدام فعل «أعاب» فليس في المعجم الصحيح مثل هذا الفعل، بل هو «عاب» وهو فعل يأتي لازماً ومتعدّياً، فتقول: عاب الشيءُ أي صار ذا عيب، وعبته أنا وعابه عيباً وعيَّبه وتعيَّبه إذا نسبه إلى العيب، وجعله ذا عيب. ورجل عيّاب كثير العيب للناس.
في «أخبار الحمقى والمغفلين» لابن الجوزي أن أحدهم قال لآخر: كل شيء في النحو فهمته إلا هذا الذي يقولون: أبو وأبا وأبي، فقال الآخر: يا لـُكـَع، إذا كان الرجل من عِلية القوم قالوا: أبا، وإذا كان من أواسطهم قالوا: أبو، وإذا كان من أدناهم قالوا: أبي (اللكع: الصغير العقل والعلم) ويبدو أن صاحبنا الكاتب ذو اللغة الرشيقة اتبع هذا المبدأ، فقال في مقالته: من هو ومن أبوه، لكنه في العنوان قال: إحزر من هو ومن أباه، فما الذي جعله ينتقل من «أبو» إلى «أبا»؟ وبالمناسبة فعل «حَزَر يحزُر ويحزِر حزْراً» ونستعمله كثيراً في العامية فعل فصيح، وهو المعرفة بالحدس، فتقول: أنا أحزر هذا الحقل بكذا وكذا. ويقول العامة: كم هذا يا حِزْرَك؟ وهو قول فصيح سوى أنهم غيروا حركات الأحرف.

بقلم : نزار عابدين
copy short url   نسخ
22/06/2017
1892