+ A
A -
منه تَتعلم، وبه تَقتدي، وعلى خُطى هَدْيِه تَمضي..
يَحدث أن تَجدَ نَفْسَك في متاهة يَصعب أن تَخرج منها ناجيا، فإذا به يذكرك وإذا بك تُصَيِّرُه مصباحا يُنير لك الدروب الضيقة..
هو لك بمثابة وثيقة شاهدة على التاريخ..
هو شجرةُ وَردٍ طِيبُها سَقْفٌ يَحميكَ وأوراقها ما تتصفحه من قصص يُغنيك عن سواها الدرسُ والعِبرةُ..
ما سُمِّيَ الفرقان إلا لأنه يفرق بين النور والظلام، بين الخير والشر..
وانْظُرْ أنتَ يا أنتَ، ألا ترى أنك أكثر مَن يحتاج إلى ميزان عَدْلِه لتَكتبَ بحبر الحكمة نهايتَك؟!
به فقط يَكون في مقدورك أن تُزيل عن الحرف الْمُجَسَّم في صورةٍ ومَشْهَد وآيةٍ الغشاوةَ بما تَرتضيه لنفسك ولأُمَّتِك من خيوط بيضاء ليسَتْ بشيء آخَر غير النقط التي تُعطي للحرف قيمة ومعنى لا يَخرج عن السياق.. فَتَحْفَظ الميثاق.. بينك وبين رَبِّك..
في القرآن كل ما تحتاج إليه لِتُحسن القيادة، قيادة نَفْسِك في شوارع دنياك..
الشاهد من نصّ القرآن ما وَردَ في باب الاعتصام بحبل الله والحرص على فض النزاع تفاديا للسقوط في العزلة والتخبط في ظلام التفرقة التي لن تَقُودَك إلى غير الضعف حدّ الانتصار عليك.
لنتدبر معنى قوله تعالى انطلاقا من آيتين كريمتين فيهما من العظمة ما يُبهرك ويُوَجِّهُكَ حين تتعثر بوصَلَتُكَ:
«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَميعا وَلاَ تَفَرَّقُوا» (سورة آل عمران، من الآية: 103).
«ولاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُم» (سورة الأنفال، من الآية: 46).
قد لا يَغيب عنك الانتباه إلى ما بين الآيتين الكريمتين من تكامل، إذ من خلال التَّرَيُّث عند دلالاتهما نَستشف ما يمكن الوقوف عنده كالتالي:
- الدعوة إلى التقوى.
- الحَثّ على التعلق بحبل الله.
- نَبْذ التفرقة لما فيها من تشتت يقود إلى الندم بعد فوات الأوان.
- التصدي للأسباب الباعثة على النزاع، كيف لا والعِبرة بالنتائج..
- النتيجة الطبيعية للحروب الباردة المدرَجة تحت مُسَمَّى النزاع لا تخرج عن الفشل.
- صِغر الشأن وتبدُّد مفهوم المسلم أقلّ ما يُذْكَر مِن تَبِعات الانسياق خلف هوى النفس (النفوس) المريضة التي يُصوِّرُ لها عقلها أن في غير الاتحاد قوة..
الشيء الذي يستحق الوقوف عنده في الشاهد الثاني من نص القرآن، في سورة الأنفال تحديدا، هو حضور الفاء السببية، وفي حضورها حكمة.
ألا نرى أن ارتباط الفاء بالفعل المحذوفة نُونُه من الأفعال الخمسة يؤكد أننا بصدد فاء أخرى غير فاء العطف التي نَعرفها باعتبارها أداة رابطة بين معطوف عليه ومعطوف متفقين دائما في الحركات التي يُعْرَبان بها؟!
ولْنَنْظُرْ الآن:
[فَتَفْشَلُوا]: فاء + فعل من الأفعال الخمسة محذوف النُّون، أصله «تَفشَلون».
بينما جاء قبلها فعل آخر من الأفعال الخمسة مجزوما بـ «لا» الناهية:
[لا تَنَازَعُوا]: أداةُ الجزمِ «لا» الناهية، وعلامةُ الجزمِ حَذْفُ النون مادام الفعل من الأفعال الخمسة.
(من باب التذكير لمن يهمّه الأمر أن الأفعال الخمسة هي: «يَفْعَلون» و«تَفْعَلُون» و«يَفْعَلان» و«تَفْعَلان» و«تَفْعَلِين»).
على أن أهم شيء يوضح لنا أن الحكمة من الفاء المذكورة هو الوقوف عند معنى فاء السببية هو الشاهد الموالي:
[وَتَذْهَبَ]: واو العطف + الفعل المضارع المنصوب بالفتحة الظاهرة على آخِره.
فكيف لا تكون الفاء غير الـ «فاء السببية» ونحن نرى جليا أن الفعل المعطوف (بعد الجزم المقترن بفِعل الأمر) جاء منصوبا، ولا يختلف اثنان في أن قاعدة العطف تشترط أن تكون حركة المعطوف الإعرابية موازية لحركة المعطوف عليه؟!
- تنازعوا: فعل مجزوم بـ «لا» الناهية، علامة جزمه حذف النون.
- تَفشلوا: فعل مضارع منصوب بحذف النون لاتصاله بفاء السببية.
- تَذْهَبَ: فعل مضارع معطوف على «تفشلوا»، تابع للمعطوف عليه في نصبه، وعلامة نصب المعطوف الفتحة الظاهرة (تَذْهَبَ).
مما سبق يَبدو واضحا أن الفاء تُبين أن ما قبلها سَبَبُ ما بعدها:
النزاع (لا تنازعوا) سَبَبُ الفشل بوصفه نتيجة (فتفشلوا)، تَليه التبعات (تذهب ريحكم) إشارةً إلى زوال المكانة وتلاشي المنزلة التي كانت قبل حرب التفرقة.
والمعنى هنا أن الفشل وذهاب الريح (عند مَن عَمدوا إلى تطبيق إجراء التفرقة) ما هو إلا جواب للإقدام على النزاع.
وفي كتاب الله دائما من الأمثلة ما يَمضي في السياق نفسه على مستوى استخدام فاء السببية، ونُورد هنا أقرب مِثال إلى سابقه في سورة الأنفال من حيث تشابههما في التركيب اللغوي:
«لاَ تَفْتَرُوا عَلى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم» (سورة طه، من الآية: 61).
وبالْمِثْل نقرأ هنا معنى أن افتراءَهم على الله (ما قبل الفاء) سَبَبُ إسحاتهم (ما بعد الفاء).
أما المقصود من الآية الكريمة الْمشار إليها في سورة طه، فإنه وفق ما ذهب إليه تفسير الطبري جواب موسى عليه السلام ردا على سَحَرَة فرعون لما اختلقوا على الله الكذبَ وتَقَوَّلُوه، فحَذَّرَهم النبي موسى من أن اللهَ سيُهلكهم ويُبيدهم نتيجة فعلتهم (الافتراء).
نعود إلى الشاهدين الأول والثاني (لا تفرقوا.. لا تنازعوا..) لنَقول إن فيهما درسا وعبرة يؤسسان لمفهوم العمل على تحقيق التماسك والاتحاد والانسجام الباعث على الطمأنينة والالتحام..
أما بعيدا عما تهدف إليه الآيتان، فلا مجال للحديث عن الراحة والسكينة، لأن الناس كالعيدان، كلما اتحدَتْ وتجمَّعَتْ تَعَذَّرَ كَسرها والنَّيْلُ منها.
يَجمَعُنا رمضان على موائد الرحمن بكل ما تَختزله الكلمةُ الأخيرة من رحمة تقتضي أن يَكون قلبُك مع الآخَر حتى يَكون الله معك مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: «الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه».
فلماذا يُعمي قلبَه من يُريد أن يُعمي قلبَه عن إنصاف الآخَر والأخذ بيده في ظرف زمني قد لا يَحتاج فيه المرء إلى شيء أكثر من احتياجه إلى مَن يَحرص على أن يُشْعِرَه بقيمته بوصفه إنسانا يَستحِقّ أن يُعامَل معاملة إنسانية بما تقتضيه من دعم ومساندة ورَفْع الضرر بقدر رَفْع صوت الحَقّ وتحقيق العدالة الإنسانية بعيدا عن تبييت النيات وتصفية الحسابات.
النص من القرآن: «فإنها لا تَعْمَى الأَبْصارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور» (سورة الحج، من الآية: 46). حقا ما أحوجنا إلى أن يَكون أحدنا للآخَر «كالبنيان المرصوص يشدّ يعضُه بعضا..» حتى لا نَفْشَلَ ولا تَذهب ريحنا. لِنكسرَ شوكةَ مَن يُريد أن يكسرنا علينا أن نلتفّ كأوراق الورد شعوبا وقيادات، فلولا التفاف أوراق الورد لَتَبَخَّرَ عِطره ولما ثَمَّنْتَ الوردَ.

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
17/06/2017
2792