+ A
A -
قبل «50» سنة كنت ولدا يافعا لا أفقه شيئا في السياسة، غير أني نشأت وترعرت في منزل يتعاطى الشأن العام ويتابع الأحداث ومجرياتها ما نمّى عندي حب المعرفة والاطلاع على أخبار العالم. وصباح 5 يونيو1967 سمعنا ونحن متجهون إلى الصفوف المدرسين يتبادلون أخبار الحرب وكيف أغارت إسرائيل على سلاح الجو المصري ودمرته على أرض المطار.
فضولي دفعني للتسلل إلى غرفة الناظر بحثا عن راديو لتقصي الأخبار من إذاعة عرفت فيما بعد أنها «صوت العرب من القاهرة»..
كانت أخبار هذا المذياع الذائع الصيت تسرد أخبار «الانتصارات على العدو الصهيوني» على مختلف الجبهات، وسقوط طائراته كالعصافير، وصوت جمال عبدالناصر يدغدغ عواطفنا ويرفع في نظرنا من صورة القائد الشجاع الذي سحر «الجماهير العربية» من المحيط إلى الخليج، إلى أن جاءت الهزيمة سريعة ساحقة وماحقة!
حزنا لخسارة مصر وجيشها، نحن الشبان الذي كان همنا البحث عن «بطل» وتأليهه والتمثل به غير مدركين ما عنته وستعنيه هذه الهزيمة من مضاعفات على واقع الدول العربية، وعلى جيل الهزيمة ووجدانه، وعلى مستقبل أجيال بكاملها لعقود من الزمن. وجاء قرار عبدالناصر بالاستقالة اعترافا منه بالهزيمة ليزيد من غضبنا لأن «البطل» لا يقهر، وليزيد في الوقت عينه من تعلقنا به...
وقبل الهزيمة كانت نكبة 1948 التي أسست للنزوح الفلسطيني ثم التهجير والتشرد نحو الدول العربية المجاورة، والى أربعة أصقاع الأرض. وتوالت بعدها الهزائم وأصبحت متلاحقة، من مجازر سبتمبر 1970 إلى حرب أكتوبر 1973، ثم اجتياح آرييل شارون لبنان عام 1982 واحتلال الجيش الإسرائيلي لأول مرة في التاريخ عاصمة عربية، واستمرار احتلاله جنوب لبنان لغاية عام 2000. وشهد عام 2006 أقسى حرب شنت على لبنان ودمرت اقتصاده وقضت على معظم بناه التحتية، وما زال يدفع ثمن مضاعفاتها إلى اليوم!
أين نحن اليوم بعد خمسة عقود من الزمن؟ هل نحن أحسن حالاً أم أسوأ؟
لا شك أن الماضي لا يزال يرخي بظلاله على الحاضر، ولا شك أيضا أن ندب الأنظمة البعثية والقومية، العسكرية والاستبدادية، لا زالت ماثلة في الجسم العربي، الذي تحكمت به طوال الخمسين سنة التي تلت الهزيمة. فتلك الأنظمة استولت على السلطة في سوريا والعراق وليبيا والسودان «لمحو آثار العدوان» باسم العروبة وبحجة استعادة فلسطين. حتى أن ثورات «الربيع العربي» بما هي انتفاضات شعبية لم تتمكن من التخلص بالكامل من طغيان هذه الأنظمة. فمنها من سقط فعلا، ومنها من لم يسقط بعد مثل بشار الأسد، ومنها من أعيد تشكيله بأدوات وأطر مختلفة.
إن من أهم مآثر تلك الأنظمة في سنواتها الأخيرة هو العمل على تفكيك المجتمعات المنتفضة عبر إغراقها بالتعصب الديني والمذهبي، وبالعنف والاقتتال الداخلي والحروب، التي حلت محل شعار المواجهة مع إسرائيل. لقد هيأت المناخ لتفريخ تنظيمات إسلاموية أصولية وتكفيرية مثل «داعش»، التي نجحت في تحويل ربيع السوريين والعراقيين والليبيين إلى كوابيس، وربما ستنجح في إعادتهم إلى «حظيرة» الأنظمة أو إلى أنظمة مشابهة.
يعيش العربي اليوم بين نار الداخل ونار الخارج ونار الأقليم، ما يدفعنا إلى استعادة قول الشاعر محمود درويش: «أينما وليت وجهك كل شيء قابل للانفجار»!
لا يحتاج العربي إلى زعماء أو قادة ملهمين أو أبطال، ولا إلى تعبئة ديماغوجية حول «قضايا كبرى»، بل يحتاج إلى أن يتم التعاطي معه كمواطن يتمتع بحريته، وحقوقه، وكرامته، ولقمة عيشه، ويؤدي واجباته في دولة طبيعية.
بقلم:سعد كيوان
copy short url   نسخ
06/06/2017
2508