+ A
A -
في الحزن مِحْنَة ومِنْحَة..
أما المِحْنَة، فمَرَدّها أنكَ تَمرّ بأصعب ظرف قد يُزلزِل حياتَك وتَكتشف أن طولَك وعرضَك و.. و.. و.. لا يَشفع لك لِتَشعر بغير ما في استطاعة نملة ضعيفة أن تَشعر به..
وأما المِنْحَة، فتتجلى في كونك تتقرب إلى الله وتتوسل إليه بما تَضرَّع به يُؤنُسكَ نبي الله..
«لا إله إلا أنتَ سبحانك إني كنتُ من الظالمين» وما وازى ذلك من آيات بينات من الذكر الحكيم أقلّ ما يُذْكَرُ وأنتَ تُقابِل حُكْمَ الله وتُوَسِّع من دائرة النَّذْرِ الذي ستَتَعَوَّد يقينا على أن تَنْذُرَهُ لله جلّ وعلا وتَرفع يديك طالبا رحمته مستغيثا راجيا أن يَرفع عنك ما يُثقِل قلبَكَ..
لا شيء يُثقِل قلبَك أكثر من خوفك على عزيز قريب تَجِد أنتَ أن من المستحيل أن تَقطع خطوة واحدة بعيدا عن عينيه وقلبه الذي ينبض في صدركَ، فبقدر ما تَستشعر نبضَ قلبه الدافئة شواطئه تُدرِك أنكَ حيّ..
ياااااااه! لن تتصور ما معنى أن تَعود الروحُ التي كادتْ تُفارقُ جسدَك بعد أن تطمئنّ أخيرا على الأعزّ من روحك، ذلك الاطمئنان الذي يتوقف على قرار مختبر قد تَكون في علامة منه ما يُعَجِّل بإعدام جسدك في ظِلّ تهديد روحك بمفارقتها له..
أن تَستردّ نسبيا صحةَ قلبك الرابض في قلب مَن تَهوى بعد رحلة انتظار عصيبة تَموت أنتَ فيها على دفعات هذا أقصى ما تَرجوه من مولاك الذي قليل عليه أن تُداوِمَ على شكره ساجدا.. قائما.. راجلا.. نائما..
لُطْف من الله أن يُعيدَ قلبَك إلى مكانه لِتُجَرِّبَ حلاوةَ شكر الله على النعمة، النعمة التي قد لا تُقَدِّرُها حقّ قدرها إلا عندما توشِكُ أن تُغادِرَكَ..
تَقديرُكَ للنعمة قِمَّةُ السعادة، السعادة التي لا تَشعر بها إلا عندما تُرفرف هي بعيدا عنك مثل فَراشة لم يَعُدْ يُغْريها الضوءُ الذي يَأتيها منكَ..
وأنتَ تَستعيد الأعزَّ والأغلى من عينيكَ وقلبِك تَتعلَّم معنى أن تَحمد اللهَ وتَشكره وتَسجد له وتَبتهل وتتضرَّع.. وكلما دَنَوْتَ من الله تَضَرُّعا وذِكراً شَعرْتَ بطمأنينة قَلَّما يَشعر بها عابر لجسر الحياة مهما غَرَفَ من الملذّات..
لا شيء يُفْسِدُ حياتَك سوى نَأْيك عمَّن يَجدر بك أن تَذكره في كل وقت وآن ومع كل نَفَس يتنفسه إنسان..
هل نَحتاج دائما إلى هَزَّة ذات وَقْع مُدَمِّر يَفوق كل ما قد يتوقعه سلم ريشتر لتتفرَّغ أكثر فأكثر لذكر الله سبحانه هو القائل: «فَاذْكُروني أَذْكُرْكُمْ واشْكُروا لي وَلَا تَكْفُرونِ» (سورة البقرة، الآية: 152)؟!
بعض المِحَن يُعلِّمنا دروسا في حُبّ الله وذِكر الله، ذِكر الله الذي مِن واجبنا أن نُواظِبَ عليه دون حاجة إلى مِحْنَة تُنْسينا ذاك وهذا وكيف ولماذا..
في المحنة منحة لِتَعرف الله كما لم تَعرفه، وتَنسى سِواه.. في المحنة معنى أن تَكون العبدَ الفارغ من سِواه كما جاء في الخطاب الصوفي لمواقف ومخاطبات محمد بن عبدالجبار بن الحسن النفري..
المحنة تُبكينا، لكنها تَمنحنا فرصة لنَقصد بابَ الله، باب الله الذي ما أن نَفتحه حتى يَغتسل الواحدُ منا من الداخل، ويَنظف قلبُه، القلب الذي نُصَيِّرُه صومعةً يؤذن فيها صوتُ الرجاء والبكاء خُشوعاً وخَشيةً وتَوبةً..
في قوله تعالى: «أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القُلوبُ» (سورة الرعد، من الآية: 28) ما يُعيننا على اجتياز فَلَوات الضياع التي تُقَيِّدُنا فيها شياطين الدنيا بمَتاعٍ ومُتْعَةٍ زائلين.. «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أَعمى» (سورة طه، الآية: 124).
فلماذا نَقطع حبلَ الودّ والرجاء؟!
ولماذا نَحكم على أنفسنا بحياة الغمّ والهمّ والعبث؟!
أليست تلك هي الحياة نفسها التي أَلْقَتْ بعدد هائل من المشاهير في الهاوية انتحارا بعد يأسهم من المعيشة الضنك التي غابت عنها الغايةُ، وتَعَذَّرَ الهدَفُ، فلذلك ضلّوا فيها الطريقَ إلى الله وإلى أنفسهم وما عادوا يُدرِكون المغزى من وجودهم وما عادوا يَفهمون المرامي التي من أجلها تُرِكُوا في سجن بلا قضبان لا يَخرج عن الدنيا الواسعة التي يَمتحنهم فيها الله..؟!
صَدِّقْ يا هذا أن الحياةَ ليست أكثر من مُناسَبَة من أجْل جسّ نبض صبرنا وقوة تحملنا..!
هؤلاء المشاهير الذين مَلكوا الدنيا صَفَّقَ لهم الملايين إعجابا بالقُشور وانبهارا بقمصان الْمَجد الْمُزَيَّف الْمَبْني على باطِل، وما بُنِيَ على باطل بَطَلَ.
أن تَفقد الإحساسَ بوجودك، وتَجهل الهدفَ من وجودك، هذا ما سَيَقودك حتما إلى الكفر حينَ تختار لنفسك نهاية هادئةً تَخْلو من تشويق وتَخْلع قميصَ الحياة الضَّيِّق مع آخِر نَفَس تَسمح لنفسك بالتقاطه قبل أن يَلتقطكَ الثَّرَى..
عندما تفقه الحكمةَ من وجودكَ ستَعرف أن عبادتَك لله هي الدافع الذي يَدفعك إلى الرضى بقضاء الله، الله الذي يَستحقّ أن تَذكرَه وتَذكر نِعَمَه عليك حتى لا تكون في نهاية المطاف ممن قال عنهم: «إِنَّ الإنسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود» (سورة العاديات، الآية: 6).
كَفَانا ما شَربناه من كؤوس مُرَّة بِعْنا فيها أنفسَنا للشيطان، فأنسانا الشيطان أنفسَنا وأنسانا ذِكرَ الله.. وما كُنْتَ لِيَذْكرك اللهُ لو لم تَذكرْهُ..
قرآننا دُروس وعِبَر نَخْلص فيها إلى أن في ذِكر الله الطريق إلى السعادة، والسعادة أن يَطمئن قلبي بذِكر الله ووَصْل مَن أهواه.

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
03/06/2017
3625