+ A
A -
القول: أخربُ من جوفِ حمار
القائل: مجهول، والمثل من أقدم أمثال العرب
أما القصة، فإنّ رجلاً من قوم عاد يُدعى حمارَ بن مُويلع،
والتسمية هذه كانت معروفة في العرب، وليس القصد الإساءة للوليد الجديد حين يُسمّى كذلك، وإنما المُراد التيمن بالاسم على فهمهم وقتذاك، فمن صفات الحمار الجَلد والصبر على المشقة والجدّ في العمل!
والعربُ حين تُسمِّي باسم الحيوان أو تُشبِّه به، فإنما تقصد صفة فيه، وكل يستخدمها حسب فهمه وفقهه، لهذا لما دخل عليّ بن الجهم على المتوكل وأراد أن يمدحه قال له:
أنتَ كالكلبِ في حفاظك للود
وكالتيس في قراع الخطوب
وطبعاً هذا مدح أقبح من الذّم، ولكن هذا ما انعقدت عليه الأفهام، والناس في اللغة كما في الأرزاق منهم الغني ومنهم الفقير!
وسُئل أعرابيّ: ما بال العرب سمّتْ أولادها نمراً وأسداً وفهداً، وسمّتْ عبيدها سالماً ومباركاً؟
فقال: العربُ تُسمّي عبيدها لأنفسها، وتُسمي أولادها لأعدائها!
وعوداً على ذي بدء، فإنّ حماراً الذي بدأنا الحديث عنه، كان له وادٍ ذو ماءٍ وشجرٍ وزرع يُقال له الجوف، لأنه داخل بين جبلين، وكان له أولاد فرسان كأحسن ما يكون الأولاد، فخرجوا ذات مرةٍ يتصيدون، فأصابتهم صاعقة فأهلكتهم جميعاً، وكان حمار أبوهم من قبل على الملة الصحيحة عابداً لله، فلما رأى ما حلّ بأولاده قال: لا أعبدُ رباً فعل هذا ببنيَّ!
وكان سيداً في قومه، فحملَ الناس على الكفر، ومن أطاعه تركه، ومن عصاه قتله، وتقول العرب في أخبارها، إن الله أرسل صاعقة أخرى خرّبت له بستانه وأحرقته فصار خالياً خراباً، فقالوا: أخربُ من جوف حمار!
وقد وردت القصة في أشعار الجاهلية كثيراً، وعلى لسان أكثر من شاعر، ومن ذلك قول الشاعر:
ويشؤم البغيُ والغشم قديماً
ما خلا جوفٌ ولم يبقَ حمارُ
الدرس الأوّل:
الدنيا دار امتحان وبلاء، والله سبحانه وتعالى يبتلي بالخير والشر، وقد قال في محكم التنزيل: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).
ومخطئ من يظن أن الابتلاء بالخير أيسر من الابتلاء في الشرِّ، لأن النفس عندما تُبلى بالشر والفقد والفقر تنكسر، وطبيعة النفس البشرية إذا انكسرت لجأت إلى خالقها، أما الابتلاء بالخير فغالباً يقودُ إلى التجبر والبغي، لأن النفس البشرية تطغى متى ما رأت خيرها كثيراً وحاجة الآخرين إليها أكثر.
الدرس الثاني:
الابتلاء بالشرّ لا ينفع معه إلا الصبر، لأن عدم الصبر لا يرفع البلاء ولكنه يحطُّ الأجر، فيجتمع على الإنسان معصية الشر ومعصية السخط على قدر الله، وإن السخط على قدر الله إذا قضى الموت على حبيب أو قريب لن يرجع هذا الحبيب أو القريب، وبهذا نكون قد خسرنا الحبيب وخسرنا أنفسنا أيضا، وما جعل الله الدنيا دار مقامة وإنما دار امتحان، لا يعرف أحدنا متى تُسحب منه ورقته!
الدرس الثالث:
الابتلاء بالخير لا ينفع معه إلا الشكر، لأن الشكر هو ضامن استمرار الخير وقد قال ربنا (لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ). وإنّ كل الطغاة الذين انتقم الله منهم كان قد ابتلاهم بالخير لا بالشر، فرعون كان ملكاً فطغى، والنمروذ ملك الأرض من مشرقها إلى مغربها فتجبر، وقارون ملك الأموال والكنوز فنسي أنها من عند الله وظنّ أنه أوتيها على علم من عنده! وعاد كانوا قوماً أشداء وبدل شكر الله على ما وهبهم من قوة، تجبّروا في الأرض وقالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)! فإياك أن ينسيك الخير الذي عندك رباً قادراً على نزعه كما وهبه، وشكر القوة مساعدة الضعيف، وشكر المال صدقة على فقير، وشكر العلم تعليم جاهل والأخذ بيد إنسان بسيط.
الدرس الرابع:
إنّ الله إذا أعطى فإنما لحكمة، وإذا منع فإنما لحكمة، وما منع عن فقر، وما خلق قبيحاً عن عجز، تعالى سبحانه، ولكنه يعلم ولا نعلم!
عندما ننظر إلى أنفسنا على أننا عباد في ملك الله ولله، يسهل أمر الفقد والفقر، ويستقيم أمر الحمد والشكر، وعندما نعتقد أننا أرباب نسخط في الشر ونطغى في الخير، ننحط! فإذا أوجعكَ الفقر تعزّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يُؤثر الحصير في جلده وكسرى يتقلب في الحرير، وإذا أطغاك الغنى تذكر سليمان عليه السلام له ملك الإنس والجن والطير والريح وعاش في ملك الله كما أراد الله!

بقلم : أدهم شرقاوي
copy short url   نسخ
21/05/2017
11090