+ A
A -
هل أَغْرَتْكَ يوما محاولة القبض على الماء؟!
لا يختلف اثنان في أنها فكرة جميلة أن تَقبض على الماء، لكن العيب ليس فيك أنتَ الذي لا تَعرف كيف تَقبض على الماء، إنما هو عيب الماء الذي ينزلق كالحلم فإذا بكَ تَعود بكفين فارغتين..
هو قامة مغربية لا يُخطئها ذوق أهل الشعر ورجاله في هذه الأرض الطيبة..
هو قيمة مُضافة إلى الشعر المغربي الذي يَرسم له صاحبُنا صورة مميزة ويُطعِّمه بنبرة خاصة تُشعِرُك بأنك في حضرة الشعر المغربي دون سواه..
إنه شاعرنا عبد الكريم الطبال الابن البار لمدينة شفشاون زهرة الشمال المغربي.. مدينة الجمال وسحر الطبيعة التي يستقي منها الشعراء ما لذّ وطاب من صور تُجَمِّلُ مرايا حروفهم..
وأنتَ بين يدي شفشاون كأنك في حضرة موج أزرق، موج أزرق يتسلل إلى البنيان ليكسوه بدلال لونِه النشوان الذي تَطْرَبُ له روحُكَ كما تَطْرَبُ لِعَبَقِ وردٍ أو هدير نَهرٍ أو تَهادي عصفورٍ يَتَبَخْتَرُ مُتمايلا بين أرض وسماء مُطْلِقا العنان للغناء..
الشعر، بعضُه حقيقة، وبعضه الآخَر خيال يوازي الحقيقة.. فاقْبضْ على ما شئتَ من حقيقة وخيال:
«اِشربِ الكأسَ.. القصيدةَ
كَيْ ترى
كل الخيالْ» (عبد الكريم الطبال، القبض على الماء).
حروف الشاعر تُراقص المستحيل مُبرِزَةً لحظة القبض على الماء بين كَفَّين..
الماء هو المعادِل للحُلم، قد يَكون، الحُلم الهارِب الذي تتمدد الأصابع شوقا إلى الزج به في ما وراء قضبانها.. لكن الحُلم يتمنَّع..
«أستبق الريحَ حينا
وأستبق الحلمَ حينا
وفي كل حين
أعود بشاردة
متفردة في البهاء» (عبد الكريم الطبال، القبض على الماء).
ألا نرى أن شاعرنا يتراءى لنا كأنه هو ابن الماء والجبال يولد فينا السؤال:
هل جَرَّبْتَ أن تَحمل حُلمك بين كفين؟!
بل لِنَقُلْ: هل جَرَّبْتَ أن تَقبض على حُلمك بين كفين؟!
لا غرابة أن يكون الحُلمُ منفلتا، منفلتا كالماء.. فهل جَرَّبْتَ يوما أن تَقبض على الماء؟!
حتى لو جَرَّبْتَ فإنك لن تُفلح في القبض على شيء..
أعزّ ما يُطلَبُ القبضُ على الماء، بين الكَفَّيْن والأصابع لا بين الوِهَاد.. لكن هل يُذعن الماء ويَنْقاد؟!
«القبض على الماء» ما هو سوى عنوان المجموعة الشعرية المراوغة للشاعر عبد الكريم الطبال، عنوان يَأخذك إليه أخذا منذ أول لقاء بينك وبينه، وهذا ما فَعَلَه بي أول ما عبَرني أو عَبرْتُه لا فَرق..
يَنفلت العنوان ولا تَنفلت الأسئلة التي يَبني بها سياجا الوقوفُ عند عتبة العنوان:
لماذا القبض على الماء؟! وكيف؟!
ما جريمة الماء حتى نَقبض عليه كما يَتم القبض على اللص إذا كان الماءُ ذا حمولة دلالية سلبية؟!
بأيّ منطق وبأيّ حِكمة قد لا نُخْفِق في القبض على الماء إذا كان الماء يَختزن في رَحِمِه معنى الحُلم- الحياة؟!
الحُلم والحياة أسمى تجليات الماء، وللماء في مجموعة الشاعر سيرورة وصيرورة لا يفسرهما غير الحُضور القوي للفظ (الماء) الذي ينبجس انبجاسا منذ أول موعد يَضربه لنا الشاعر في النص الأول من المجموعة:
«متوشِّح بالوَرد
ذو صدر عريض
كالسماء
وحالم كالنهر
يَنتعل الحشائش دائما..
يجري على صدري
فأجري..
مثل ماء في الجبال» (القبض على الماء، عبد الكريم الطبال).
ما هذا؟! لن تُصَدِّقوا! إنه المفهوم الخاص الذي بَلْوَرَه الشاعرُ في باقة نَدِية من باب تعريف الشِّعر، وهو العنوان (شعر) الذي رأى الشاعرُ من الحِكمة أن يَحمله ذلك النصُّ.
وانظروا! انظروا كيف أن الشِّعر يَجري في صدر الشاعر، والماء يجري كذلك، يجري كماء ينثال بين سفوح وجبال، كنهر يتخذ الحشائش نَعْلاً وحِذاء..!
للنهر في لوحات عبد الكريم الطبال الشعرية (الموازية بهاءً للوحات فُسَيْفِسَاء طبيعةِ مسقط رأسه شفشاون) تحية خاصة يَحملها نص يُكَرِّمُه بتوصيف السيد الجميل، والنهر أهل للسيادة، لكننا لا ندري إن كان المراد النهر كما نَعرفه أم هو سيد من لحم ودم يُشيدُ بجَماله ويُغدق عليه من أوصاف مَشهَد طبيعي يرَكض الشاعر ركضا رغبةً في القبض عليه قبل اكتمال الجريان:
«لَمَمْتَ الرياح
وصِدْتَ الغيومَ
وفضَّضْتَ ما كان طينا
ومَوَّجْتَ ما كان صخرا
وَمَوْسَقْتَ ما كان صمتا
وذَهَّبْتَ ما كان مثل الرماد
ولم تَسْتَرِحْ مرة
ثم صُغْتَ من الكلّ
امرأةً
في غلالة ضوء
لها جسد الياسمين
وصوت الحمام
وروح القرنفل
ثم استرحتَ على كتف البحر
مثل إلاهٍ صغير
أتمَّ القصيدةَ..» (عبد الكريم الطبال، القبض على الماء).
ألم نَقُلْ إنها شفشاون؟! وشفشاون ولاَّدة، كيف لا ومَن يترعرع بين جبالها وأشجارها يَعرِف كيف يَتذوق الجَمالَ ويُثمِّنُ الجَمالَ ويَنحني للجَمال!
شفشاون بالنسبة لشاعرنا هي الذاكرة، هي التاريخ، هي الطفولة التي يتودد المرء إلى النسيم لعله يحمله إليها مع كل ربيع آتٍ مهما كذَّب الخريفُ الوعدَ:
«بعيدا
عن الساعة الواحدة
يُلاطف طفلا
هيولى
يلقنه الكبرياء
وبعض الحكايا
عن الورد والشعراء
وقصة أول ماء
وأول شعر» (عبد الكريم الطبال، القبض على الماء).
ما أحلى الذكريات وهي تعود بك إلى مجد العابر من أوقات! ما أحلى الذكريات لو آنَ لكَ أن تقبض عليها ولا تنفلت هي (ذكرياتك) كما ينفلت الماء!
الحنين انتفاضة، والشعر انتفاضة تحاول القبض على المستحيل..
«انتفاضة» عنوان نص يُهديه الشاعر عبد الكريم «إلى الطفلة الفلسطينية التي لم يسمح لها بالتسجيل في الدفتر المدني»:
«يَتُها الطفلة اللؤلؤة
يَتُها الضحكة.. المدهشة
سأسجل اسمكِ
في دفتري
المتزين بالورد والأغنياتْ
سأسجل اسمكِ
في خافقي
نجمة لا تَموتُ إذا الليلُ ماتْ
فلا شِعر أجمل منه
ولا شمس أشرق منه
ولا بحر أعمق منه..» (عبد الكريم الطبال، القبض على الماء).
من حق الشاعر أن ينتفض إكراما لريحانة فلسطينية، ومن حقنا أن ننتفض إعجابا بوفاء الشاعر للمكان شفشاون/ الشاون التي هي الألف والياء وما بينهما..
ولا غرابة أن يحتفي الشاعر بالمكان الذي يحظى بحظ كبير في تأثيث فضائه الشعري الثري بألوان الطبيعة وهي تأسرك أسرا لتستدرجك إلى حضنها مشتاقا وأنتَ في حضنها نأيْتَ أم دَنَوْتَ:
«أنت المكان.. أم أنا المكان
أسافر إليكْ
تسافر إليّ
من غير أن نبْرح بابَ العتبة
أو نرفع المنديل
وبين الماء.. وبهاء الماءْ
وبين عشب.. ونداهْ
وبين صمت الليل وشجاهْ
وبين همس الصبح.. وصداهْ
سنلتقي في واحد
هو المكان» (عبد الكريم الطبال، القبض على الماء).
تلك شفشاون، وذاك شاعرنا.. فكيف للشاعر المتيم بالمكان أن يَقبض على المكان في قفص الذاكرة؟! وكيف للشاعر ألا يُتَرْجِمَ كل هذا التدفق المكاني الناطق بفتنة الطبيعة وتموجها سحرا؟!
إنها سطوة القبض على اللحظة زمنا ومكانا.. وبينهما عُبور.

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
20/05/2017
4835