+ A
A -
أكثر ما يشكو الناس منه لا يستطيعون الاستغناء عنه. وفي حياتنا حالات عديدة لأشياء نتبرم منها ومع هذا لا يمكن أن نعيش بدونها. والموظفون من بين هذه الحالات. يشعر كثير من الناس بالتنغيص من تصرفات بعضهم لكنهم يعرفون أنهم لابد وأن يلجؤوا إليهم.
نسمع عن الروتين والفساد والمساومات والاستهتار والتلكؤ والتعنت في كثير من المصالح الحكومية وبرغم ذلك يبقى الموظفون ضرورة لا غنى عنها. فهم من يسيرون دولاب العمل. يمنحون التراخيص ويعطون الموافقات ويضعون الأختام ويحررون الشهادات ويعتمدون الوثائق ويفرضون الغرامات ويجمعون الضرائب ويفتشون على المرافق ويراقبون السلع ويشرفون على مختلف أعمال التصريح والتنظيم والرقابة.
الموظفون هم وجه الدولة أمام المجتمع. يطبقون السياسات التي تضعها والأوامر التي تقضي بها. لكنهم في نفس الوقت أفراد من المجتمع يتوقع الناس منهم أن يمثلوهم أمام الدولة. فعن طريقهم تقضى الحاجات وترفع المطالب تدريجياً إلى قمة الدولة. هم همزة وصل تربط الدولة بالمجتمع، تنفذ سياسات الدولة وتدافع عن حقوق المجتمع. لكن هذه هي الصورة المثالية وليست الحقيقة. فالموظفون هم الجهاز الإداري للدولة بل هم عند الناس الدولة نفسها. وكلما غضب المجتمع من الدولة فعادةً ما يصب غضبه على الجزء الظاهر منها وهم الموظفون الذين تحولوا لأسباب مختلفة من رابط يربط المجتمع بالدولة إلى فاصل يبعده عنها.
وفي عديد من البلدان العربية فقدت شرائح واسعة من الموظفين دورها كهمزات وصل بين الدولة والمجتمع حينما وجدها الناس تعسر ولا تيسر، تسرق ولا تحمي، تجامل ولا تعدل. وليست مؤشرات الفساد الإداري المرتفعة إلا دليلاً على أن قطاعاً واسعاً من الموظفين فقد وظيفته كصلة بين الناس وأهل السياسة. فلا هم يطبقون سياسات الدولة بنزاهة ولا هم يسمعون إلى الناس باحترام. وإذا كان الموظفون مسؤولين عن ذلك إلا أن مسؤولية أهل السياسة أكبر.
فلم يجد أهل السياسة بعد أن فقد الموظفون دورهم كهمزة وصل تحبب المجتمع فيهم إلا أن يتخذوا منهم فاصلاً يبعد المجتمع عنهم. ولهذا حاولوا مراراً أن يصوروا الفساد على أنه إداري وليس سياسياً وأن العيب في الموظفين وليس في منظومة السياسة. لكن الناس ازدادوا وعياً. رأوا الموظفين بعيوبهم وأنهم لم يعودوا تلك الصلة التي يفترض أن تربطهم بالدولة. لكنهم انتبهوا إلى أن أهل السياسة يتخذونهم ضحية ويجعلونهم حاجزاً يحميهم من استياء المجتمع. بات أغلب الناس يعرف أن الخطأ ليس في الإدارة وإنما في السياسة وأن الاحتجاج على الموظفين ليس إلا احتجاج على أداء الدولة نفسها.
والموظفون أنفسهم حيارى، يطالبون الدولة بكل ما يطالب به أفراد المجتمع لأنهم في الأول والأخير من بين أفراده. لكنهم بعد أن لم يجدوا من الدولة ما يلبي احتياجاتهم تصرفوا بأنفسهم. راحت قطاعات منهم تستغل المواقع التي تشغلها في الحصول على مكاسب خاصة. وكلما كانت الدولة تزيد من إهمالها للموظفين كانوا هم يزيدون إساءة استعمال صلاحياتهم. وفي ظل تلك الممارسات عجز الموظفون عن تحبيب المجتمع في الدولة وعجزت الدولة في ظل مجتمعات تزداد وعياً عن استعمالهم كفاصل بينها وبين الناس.
فلم يعد مقبولاً على نطاق واسع اتخاذ الدولة للموظفين كبش فداء أو تفسير البؤس المجتمعي بأداء الجهاز الإداري للدولة وحده. صحيح أن أصوات المجتمع لا تكف عن انتقاد الفساد الإداري ومخالفات الموظفين إلا أنها تدرك أن ذلك ليس إلا القشرة الخارجية لفساد أبعد يخص الرؤية السياسية وتعي أن الفاصل الإداري من الموظفين الذي يحتمي به الفساد السياسي لم يعد يفصل الناس عن الحقيقة.
لقد فقد أكثر الموظفين العرب رسالة الوظيفة كما يجري في الدول الفعالة. لم يعودوا يقومون بدورهم في الوصل بين الدولة والمجتمع. تسببت ممارسات قطاعات واسعة منهم في قطع أمل الناس في الدولة، إلا أن الدولة بكل هياكلها السياسية لا تُعفى من المسؤولية لأنها لم تدر مرفقها الوظيفي بنزاهة. تركته ينفلت إلى أن تلف. وكانت الطبقة السياسية تكسب من وراء ذلك كثيراً. ولما بدأت الضغوط الشعبية تزداد على أهل السياسة فإن كل ما فعلوه لم يزد عن اتخاذ بعض الموظفين كبش فداء. حاولوا أن يجعلوا الجهاز الوظيفي فاصلاً يحملونه اللوم على ما لحق بالمجتمع. لكن ما جرى قبل أعوام من ثورات ما زالت دروسها تختمر تكشف أن الناس برغم لومهم للإدارة إلا أنهم لا يحملون الموظفين اللوم وحدهم. باتت الصورة تكشف يوماً بعد يوم عن أن الأزمة في السياسة. فهي التي أرهقت المجتمع وأساءت إلى الدولة وغيبت رسالة الموظفين الأصلية جسراً يربط الدولة بالمجتمع وليس صلة لا تصل وفاصلاً لا يفصل.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
15/05/2017
2920