+ A
A -
ما معنى أن تَبحث عن بارقةِ ضوءٍ ممكن في خِضَمّ ليلِ المستحيل؟! هذا ما حاول أن يَأخذنا إليه البارع في القَصّ الكاتب المغربي عبد الجبار السحيمي مُغَلِّفاً مُتَخَيَّله بمسحة فلسفية تَكشف أجواءَ القلَق التي تَسرق من الذات القدرةَ على الإحساس بالحياة..
«حكايةٌ حزينة» عنوان حكايةٍ بدايتها حزينة ونهايتها حزينة يَقصّها عبد الجبار السحيمي بمقصّ الرغبة في إشراكنا في الحكم على لحظات منتَزَعة انتزاعا من يوميات بائسة يَنتصب فيها السؤال..
السؤال في خط تحرير عبد الجبار السحيمي منطق رؤيةٍ سردية تتغذى على فلسفة التأمل بعد أن يَكتبها المخيال (مخيال الكاتب) ويُحاول فيها البطل جاهدا أن يتمرد على قانون اللعب بحبل الحياة..
كاتبنا السحيمي تَستهويه الحياة الورقية عن طريق اللعب بترتيب الكلمات، وها هو يُعيد ترتيبَ الكلمات من باب تمجيد زمن الرِّقَّة، زمن المشاعر، وكشف رهانات قَلْب بحر العاطفة الثائر..
الحنين إلى ما رَقَّ وشَفَّ عنوان عريض لحياة ثانية لم يَعِشْها بطل القصة، لكنه أخفق في الوصول إليها، ليس لأن الوسائل والأدوات كانت تَخونه، وإنما لأن القَدَرَ صَرخَ في وجهه صرخةَ الرفض: «لا».
الموت المحتم كان في انتظار البطل الباحث عن معنى لوجوده في ظل غياب الهوية. فكيف كان له أن يُحدد تموقعه في قلب الوجود بالقوة، ذلك الوجود الذي تمحى فيه معاني الأشياء..
البطل مجرد. بطل «حكاية حزينة» من مجموعة عبد الجبار السحيمي القصصية «الممكن من المستحيل» لا يَخرج عن رقم. هو بطل نكرة يُلبسُه الكاتبُ قميصَ «1431»، وبهذا القميص يتحرك البطل في الفضاء المفتوح (المدينة) التي تُجَرِّعُه على مضض كأسَ الغربة..
المدينة تَكبر وتَكبر، وكلما كبرت ازداد فيها إحساس البطل 1431 بضيق أنفاسه تحت سماء لا تَكفيه. تَصغر قيمةُ البطل في عينيه وفي عيون الآخرين، ويَكبر إحساسه بالفراغ الذي يتآكل فيه الرقمُ 1431 ويَذوبُ فيه مِثل شمعةٍ تَكتبُ بأنَّاتها مرثيةَ الوقت..
يَذوب البطلُ 1431 شيئا فشيئا قبل أن يَتلاشى مثل فقاعة ما أن تَنتشله يَدُ الموت من قبر الحياة الضيق والصاخب لتأخذه إلى قبر آخر لن يَكون أكثر من مَلاذه المريح..
التشيؤ منطق تَقوم عليه الكتابة السردية عند السحيمي في هذه القصة العميقة الأبعاد والدلالات. ولا أدل على التشيؤ من الرقم الذي يحمله البطل وكأنه فاقد للاعتراف بأي وجود غير الوجود عنوة في زمن الضعف الذي تَأكل فيه المدينة الكبيرة الإنسانَ الضعيف.
البطل رقم (1431) لَصيق بالآلة رقم 11 في المعمل، وهو مجرد رقم تَسبقه أرقام وتَليه أرقام أخرى في زمن تتبخر فيه آدميةُ المرء ويتحول إلى الإنسان الآلة:
«كانت كتفاه ترتطمان كل يوم بعشرات الأكتاف في الشارع، وكانت عيناه تقعان على كثير من الوجوه، ولكنه لا يعرف أحدا في كل هذه الوجوه، لا يُحَيِّيه أحد ولا يُحَيِّي أحدا، حتى اسمه يَنفصل عنه، فهو داخل المعمل الذي يَشتغل فيه مجرد رقم من الأرقام، الرقم 1431، وقبله عدد كبير من الأرقام، وبعده عدد أكبر» (عبد الجبار السحيمي، الممكن من المستحيل).
إنه الإنسان الآلة، المطلوب منه هو الإنتاج فقط، ولا شك في أن صلاحيته تتوقف على زمن الإنتاج، وبعد أن تَنتهي الصلاحية يُلقى بالآلة كما يُلقى بأي شيء.
في لحظات استعادة لمفهوم الهوية نَرَى البطلَ 1431 يُحاول أن يَبحث عن نفسه فلا يَأبى إلا أن يَقطع خطوةً على طريق التغيير. فمِنْ أين يَبدأ طريقَ التغيير؟! يبدأ من إعلان في جريدة يَكتبه البطلُ في ركن من المقهى:
«هل أنتَ مثلي سَحقَتْكَ المدينة، فلم يَعد لك وجود فيها، أنا وأنتَ نحقق هذا الوجود، إذا اجتمعنا معا، لنكنْ أصدقاء إذن، وتعالَ إليَّ مساء الأحد القادم في خط الأوتوبيس 5، فسوف أظلّ أنتظرك هناك..» (عبد الجبار السحيمي، الممكن من المستحيل).
البطل هو الرقم 1431، والآلة التي يعمل عليها رقمها 11، والفتاة التي تنتظره لتغيير حياته عمرها 19 سنة، والمكان الذي سيشكل لحظة تاريخية شاهدة على ولادة اللقاء هو محطة الحافلة رقم 5.. ألا يَرسم هذا علامتي تعجب واستفهام كبيرتين؟!
من الواضح أن الأرقام الفردية هذه المسجَّلة على امتداد الأحداث تُعَبِّرُ بقوة عن غياب الحِسّ التشاركي.. فلا صوت يَعلو على صوت العزلة والغربة والإحساس بالضياع.. ولهذا رأى الكاتب من الحكمة أن يُوَظِّفَ الأرقام الفردية في غياب تام للأرقام الزوجية..
الحس الإنساني هو النص الغائب في قلب المدينة القاسي. ولهذا يَتَوَسَّمُ البطلُ 1431 في المستقبل ابتسامةً قد تُغَيِّرُ حياته كليا. وهذه الابتسامة الدافئة الحبلى بالحُبّ لن تَخرج عن هذا الإنسان الذي سيُبَدِّلُ لونَ الحياة الأسود في وجهه ليملأه البياضُ لو آنَ له أن يَنتظره على رصيف المحطة رقم 5 في اليوم الموعود:
«لقد عييتُ من الدخان والمصانع، وأنا أبحث الآن عن إنسان... علاماتنا وردة بيضاء في يَدِ كل واحد منا على رصيف محطة الأوتوبيس رقم (5)، سوف أنتظر هناك، أرجوك، لا تدعني أنتظر طويلا» (عبد الجبار السحيمي، الممكن من المستحيل).
فلماذا الوردة؟! ولماذا اشترط صاحبُنا أن تَكون بيضاء؟! ألا نَرى أنه يَجتهد ويَستميت باحثا عن الصفاء الذي افتقده في حياته؟! أليس الأبيض لون الصفاء والنقاء والطهر والمشاعر الإنسانية النبيلة التي يَدُوسها حذاءُ الزمن، الزمن القاسي الذي يَنصب خيمتَه في قلب المدينة الكبيرة؟!
أليس الورد رمز الرقة والعواطف؟! ألم يَجِدْ صاحبُنا شيئا آخر يتخذه رمزا للتعارف غير الوردة البيضاء؟! لماذا لم يُفَكِّرْ في ربطة عنق مثلا؟! أهذا لأن ربطةَ العنق تُذكره بحبل الحياة الذي يَلتف حول عنقه ويَسلب منه الإحساسَ بطعم الحياة مادام يُميته موتا بطيئا كأنه يَقتله على دفعات؟! لماذا لم يُفَكِّر البطل في أي شيء مادي يتخذه رمزا للتعارف؟!
لا يختلف اثنان في أن البطلَ قادم من الزمن الجميل، زمن المشاعر إحساسا وتقديرا، ولهذا كان من حظه أن هناك فتاة تتحسس وردة بيضاء وهي تقف على الرصيف تنتظره بأنفاس متقطعة، وهي الأخرى تَحْلم برد الاعتبار لسقف الإنسانية المنهار.
نُمَنِّي أَنفسَنا بالورد والشهد، لكن أحيانا تَكون للقدر كلمة أخرى. وهكذا تَرْكُضُ الفتاةُ تلبيةً للموعد، لكن سيقان القدر تَسْبقها لِتَلتقطَ روحَ البطل 1431 قبل أن يكتمل اللقاء ويُتَوَّج بتعارُف لم يكن البطل يعرف مقدما إذا كان هذا التعارف سيقوده إلى كسب إنسان يُحِس به ويقاسمه بلحَ نخلةِ الأيام وملحها من جنس الذكور أم من جنس الإناث.
صبية شَابَ قلبُها تحت وطأة الحياة القاسية التي تَسقيها كؤوس الحزن وتفعل بها ما يفعله المنشار، تنتظر وتنتظر، فيَنتهي النهار، ويَعبر الليل جِسرَ الانتظار، إلى أن تَفقد الصبيةُ الأملَ.
الغريب أن الفتاة تُقَبِّلُ الوردةَ وتَضعها في سلة الأزبال. وقد يتساءل سائل ما الحكمة من أن يختار عبد الجبار السحيمي هذه النهاية للوردة.. لماذا لم تتركها على الرصيف؟! لماذا لم تضعها على مقعد أو نافذة؟!
هنا ستجد أن الكاتب كان ذكيا في اختيار نهاية موفقة للوردة. فلو أن الفتاةَ تَركتها هنا أو هناك سيأتي أحدهم ويحملها، وربما يأتي البطل 1431 متأخرا شيئا ما، وقد يجدها في يد أحدهم فيبادر البطل إلى التقرب منه بابتسامة.
لكن ألا نفكر في وقع رد الفعل على البطل؟! ألا نتصور أن الفتاة قد خَشيتْ أن يَجْرح أحدُهم البطلَ بكلمات لا يستحقها هو المرهف المشاعر بناء على ما يُبديه من حِسّ إنساني رقيق في إعلانه؟!
حُلم آخر يَسقط مع سقوط وردة الفتاة في سلة المهملات رغم ما وَعدَ به الألمُ من أمل، ونَعرف أن الألمَ يَلِدُ الأملَ، لكنه أحيانا يَقتل الأملَ.
سَرْد شفَّاف وحالِم يُشَوِّقُكَ لا غرابة أن يَصدر عن كاتب تَمَرَّسَ على الكتابة السردية، وإذا كنتُ أعترف بأن قلم عبد الجبار السحيمي يَستحق القراءة، فلأنه يبني لك عوالم تُغريك باكتشافها كالتي يبنيها هنا في «حكاية حزينة» وهو يصطاد بعضَ الممكن في غابة المستحيل.

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
13/05/2017
5503