+ A
A -
«من لا يملك قوت يومه لا يملك قراره»، قول معبر للزعيم الراحل جمال عبدالناصر، قال مثله، وفي سياقه، مفكرون عرب كثر، ولكننا تعودنا أن نصفق للأفكار الجميلة، ونستحسنها ونعجب بها، وتأخذنا العبارات والأقوال ذات المعنى الذي يشخصنا أو يطالبنا بتغيير المسار، ولكننا، للأسف تنتهي حدود ردود أفعالنا عند هذا الإعجاب، كأن لنا ذاكرة الأسماك التي تمكث فيها الأشياء والذكريات الجيدة والسيئة ثواني معدودة، ثم سرعان ما تتلاشى وتتبخر، كأننا «ظاهرة صوتية» نقول الكلام أو نسمعه لنعجب به ولا نفعل ما يحض عليه أو يدعو إليه.
الأميركيون الذين يزرعون معظم ما يأكلون، ويحققون الاكتفاء الذاتي من محاصيل كثر، بل ويغذون أسماك الاطلنطي ببعض من فائض قمحهم، حتى لا تنخفض أسعاره في الأسواق، لا يكتفون بالشبع والثراء والتخمة أحيانا، ولكنهم يبحثون في مصائر الشعوب الجائعة، أو التي تستورد معظم غذائها، ليتبينوا كيف تؤثر الفاقة الغذائية على أحوالها وتوازنها النفسي، فتبينوا من خلال بحوث أجروها، ونشرت صحف أميركية مقتطفات وملخصات منها، أن انعدام الأمن الغذائي يحرض على الأمراض النفسية، وأن عدم القدرة على الحفاظ على الإمدادات الغذائية يفاقم الاضطرابات النفسية، ويثير استجابة الجسم للإصابة بالإجهاد والقلق، بل ويمكن الإضافة لهذه الأبحاث القول إن عوامل القلق والتوتر بالمجتمع، والمترتبة على نقص الغذاء أو ارتفاع أسعاره أو صعوبة الحصول عليه عامة، هي من العوامل المغذية للإرهاب، كما أنها عامل من عوامل انتشار الجريمة في هذه المجتمعات الفقيرة غذائيا.
الإسرائيليون من جانبهم رنت في آذانهم مقولة عبدالناصر، وبدا الأمر وكأنهم عملوا بها بينما نحن صفقنا فقط لها، ولكن الحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها، أن الإسرائيليين يدركونها قبل أن يدركها عبدالناصر، فلم يستسلموا- مثلا- لأموال المساعدات التي تغدقها عليهم أميركا والتي يمكن أن توفر لهم الكثير، ولم يأمنوا إلى أن أغنى أغنياء العالم من اليهود الذين لن يتخلوا عن الدولة حلمهم، فلم يركنوا إلى هذا أو ذاك، ولهذا راحوا يزرعون ما كان لا يزرع في أرض محدودة المساحة، ويربون ما لم يكن يربى، ونجحوا بقليل من موارد المياه في قهر الصحراء، ولهذا ينبغي أن نخجل أن الإسرائيليين نجحوا في أرض محدودة المساحة أن يحققوا منها الكثير، بينما معظم الدول العربية لديها فائض من الأرض والموارد المتنوعة، ولكننا مازلنا نستورد معظم الغذاء.
المشهد برمته، فضلا عن تداعياته كما أثبتتها بحوث أميركية، يدعو للخجل، فمن لا يملك قوت يومه لا يملك قراره، كما قال الزعيم الراحل ومع ذلك بدأت في عهد عبدالناصر ظاهرة: «طوابير الجمعية»، وارتفعت في عهده أسعار السلع والأغذية بمعدلات غير مسبوقة، وكأن عبدالناصر كان يقول ولا يفعل ما يقوله، هل إننا نعاني من مرض وراثي تاريخي يحتاج إلى «كونسلتو» من أمهر أطباء الفسيولوجيا والاجتماع لتشخيص هذه الأسقام؟

بقلم : حبشي رشدي
copy short url   نسخ
09/05/2017
1541