+ A
A -
ماذا لو تَمَّ في مسابقات الإبداع التي نسمع عنها غالباً تفويت المراكز الأولى لمن يهم هذه المسابقات أمره، كأن تكون له صلة قرابة (سواء من قريب أم من بعيد) أو صداقة بممولي الجائزة، أو كأن يكون من بني جنس البلد المنظم للمسابقة أو قِسْ على ذلك؟!
على رأس الغايات والمرامي التي نتوق إليها هناك تشجيع المواهب الحقيقية من خلال قيام دُور النشر الذائعة الصيت بدعمها لأصحاب المواهب، بحيث تَعمل باعتياد على تخصيص نشر كتاب على نفقتها وتسويقه بما يَقتضيه من لقاءات ثقافية تُعَرِّف بالجوهرة الثمينة ذات الأصابع الذهبية التي رسمَتْ لنا عوالم تَأسر العين والفكر..
لا يختلف اثنان في أن أيّ مؤسسة ثقافية أو سواها يمكنها المساهمة في خدمة المبدع الذي تَخونه الظروف لإنتاج الكتاب الإبداعي بالمفهوم الحداثي للإنتاج..
المشكلة ليست في نفقات النشر. المشكلة في تسويق المنشور.. فأسوأ مصير يمكن أن يتعرض له كتاب هو الهجر قبل نعيم الوصال. وأقبح صورة لا تَليق بالكتاب أن يظل المسكين قابعاً في الرّفّ أو أن يظل ممدداً على طاولة مثل الرغيف الذي تَزهد فيه اليدُ ولا تَكترث له العين.
ليس كل ما يُنشَر يَستحق القراءة.. وليس كل ما غاب عن النشر يَستحق تجاهل أصحابه.
هناك مأزق..
هناك أزمة.. لِنُسَمِّها أزمةَ كِتاب!
أتساءل دائماً أيّهما أجدى: النظر إلى سيرة الكاتب أم النظر إلى الكتاب المقترَح للنشر؟!
لا علاقة!
سيرتك الذاتية قد لا تَخدمك إذا كنت تحظى بما تُمول به نشرَ كتبك بغض النظر عن رأي أي لجنة قراءة ذات اختصاص فيها.
في المقابل هناك مَن يُخبئ بين أصابعه ثروة فكرية تحترمها أيّ لجنة قراءة ذات اختصاص، لكنه يفتقد الوسائل والأدوات، وربما الإيمان بما يَكتب والثقة به بعد أن يَخسر إيمانَ القارئ بالمكتوب وثقته به بالمِثل.. بلدان عديدة أصبح الواحدُ مِمَّن يهمهم أمر شأنها الفني يُنفق ميزانيات ضخمة على إنتاج الأشرطة السينمائية والألبومات الغنائية التي لا تزيد الْمُشاهِدَ العربي إلا فسادَ ذوقٍ، في المقابل لا نَجد هذه البلدان تَحفل دائماً بالكِتاب، والأهم قبل الكِتاب هو الكاتب، لأن الكاتب هو الدجاجة التي تبيض لنا الذهب..
الكتاب نفسه إذا كان رواية قد حصلَتْ على حظها من الانتشار ونصيبها من التقدير يمكن أن تصبح مشروع شريط سينمائي هادِف.. ولدينا في الربرتوار السينمائي العربي عدد من الروايات التي نجحَتْ نجاحاً مدوياً سينمائياً ولم يُخطئها ذوق الْمُشاهِد:
- «دعاء الكروان» لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين من أجمل ما قدمَتْ سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة رفقة أحمد مظهر وزهرة العلا.. إخراج هنري بركات.. تلك تُحفة فنية سينمائية خالِدة كلما تذوقتُها مشاهدةً يَشدُّني الحنينُ إليها وإلى زمنها..
- «الحُب الضائع» للخالد بحِسّ قلمه وذوقه الفني الْمُبْهِر طه حسين دائماً من أروع وأعظم ما شاهدتُ (وأشاهد باستمرار على سبيل التكرار) من أداء سعاد حسني وزبيدة ثروت ورشدي أباظة.. إخراج هنري بركات..
- «بداية ونهاية» لصاحب نوبل نجيب محفوظ، هذه رواية أخرى قفزت إلى السينما واشترك في الأداء عمر الشريف وأمينة رزق وآخرون.. إخراج صلاح أبو سيف..
اللائحة طويلة جداً، لكن يَكفي الوقوف عند أمثلة (لا على سبيل الحصر) في مقدمتها مجموع ما تُرْجِمَ سينمائياً للروائي الذي تمرد بالحُبّ على قانون الحياة، إنه إحسان عبدالقدوس..
كيف كان لِعَيْني المخرج أو المنتِج أن تَقَعا على قطعة روائية لو لم تُهرول القطعةُ على قدميها إلى حيث يمكن أن تمتد إليها العيون؟!
أفلا نُفكر قليلاً في ما كان سينتظر الكاتبَ الروائي لو أن ذلك الإبداع الروائي لم يحظ بفرصة إشعاع نشراً وترويجاً؟!
دُور النشر كثير منها لا يُرحب بنشر الشعر، أو يَقترح نشره على نفقة الشاعر، وقد نتفهم ذلك فنقول إن القارئَ يزهد فيه مع أنه غذاء الروح، لكن الروايةَ كون آخر.. الرواية خيال يَحملك إلى كوكبه على بساط الحوار الذي يُدَبِّجه روائيو عالَم اليوم بالصورة الشعرية التي تتقدم إليك ثَمِلَة لِتُلقي بروحكَ في نهرها الفيَّاض..
إذا كنا نمني أنفسنا بأن تَفتح لنا دُور النشر أبواباً واسعة لانتشال الكُتَّاب من تبعات مِحنة مُعْضِلة النشر، فهذا لا يعني أن مُنظمات وجِهات أخرى مُعْفاة من أن تَخوض التجربة لِتَقْطَعَ بالكِتاب العربي خطوة على طريق التغيير..
تَبَنِّي المواهب الإبداعية أكبر مشروع يمكن أن يَتحقق من باب الاستثمار في الإبداع، لإعادة البريق إلى مرآة الثقافة، وبالمثل لِرَدّ الاعتبار للكِتاب الورقي الذي يَكاد صرحُه يَنهار.
تبني الموهبة ليس المطلوب فيه أن يتم تقييد الإبداع بشرط:
- ما معنى أن يُصِرّ مُنَظِّمُو جائزة الكِتاب على تحديد عُمر الكاتب المشارِك؟!
- ما معنى أن تَكون الجائزةُ مُوَجَّهة إلى من يَكتب الكتاب الأول؟!
- ما معنى تهافت فئة من الناشرين على الأدب المائع الخليع وكأنك مرفوض ما لم تنحدر إلى ذلك المستنقع الفكري في زمن القصور الفكري عند عدد ممن يُفَصِّلون الفكرَ على مقاسات رغباتِهم وسُعارِهم الجنسي وهَوَسهم بإرضاء قارئ لا يَختلف عنهم؟!..
نُريد ضمان حَقّ المُبدِع في الحياة الكريمة، نُريد حِفظَ ماء وجه الكاتِب الذي يجتهد ويَتعب رغبة في إرضائنا بما يَخلقه من عوالِم آسِرة بأبيضها وأَسْوَدها، بِحُلوِها ومُرّها..
تلك عوالِم تُغْرِينا باكتشافها والإبحار فيها نحن الذين لا نَعرِف شيئا عن العالَم القاسي الذي يَتخبط فيه الكاتب ويبحَث لنا فيه عن هامش ليُتْحِفَنا بما يُبْدِعُه، فنَسعَدُ وننتشي ونَطْرَب لما يُبْدِعُه وقِلَّة مِنّا مَن تُقَدِّر كم يَشقى المبدِع طلبا لِوَصْلِنا والجسرُ كِتابه.

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
06/05/2017
3840