+ A
A -
الاستبداد، هو الانفراد بالأمر، واستبد بالأمر، إذا انفرد به، وهو في تصوري: الانفراد بالرأي مطلقاً، وأقصد بالإطلاق هنا أمرين:
الأول: ان الانفراد بالرأي، من غير حق، استبداد، سواء كان قانونياً أم غير قانوني، إذا كان هذا القانون نفسه ظالماً، يهدر مبدأ المساواة، ويحرم الآخرين من المشاركة.
الثاني: أن الانفراد بالرأي لا يقتصر على الجانب السياسي، وهو ذلك التسلط الذي يمارسه الحاكم على شعبه في انفراده بإدارة العام، وإنما يمتد ليشمل كل أنواع وصور ومستويات التسلط الاجتماعي: مثل تسلط الأب والزوج في نظام العائلة، والمعلم في المدرسة، والشيخ أو الخطيب في منبره وجامعه، ورئيس الحزب في حزبه، والرجل على المرأة، والأغلبية على الأقلية، وهكذا يمتد ليشمل سائر التنظيمات وكافة صور التسلط الثقافي والديني والمذهبي والقبلي والعرقي. فالاستبداد ليس مقصوراً على التسلط السياسي كما هو المتبادر إلى الأذهان وإنما يشمل كافة أشكال التسلط المجتمعي ويتخلل ويهيمن على كافة العلاقات والتعاملات اليومية المستمرة.
ولا عيب في أن ينفرد المرء برأيه في خاصة نفسه، كما لا حرج في الانفراد في إطار الاختصاصات المشروعة، ولكن الانفراد بالتصرف في شأن الآخرين ومن غير وجه حق ودون الاعتراف بحقهم، فهذا هو الطغيان الذي ذمه القرآن، وهو نوع من تعظيم النفس والاستعلاء والاستغناء عن الآخرين «كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى» إن أوضاع وممارسات المجتمعات العربية تؤكد استمرارية الاستبداد الاجتماعي والسياسي وبكافة صوره ومستوياته كحقيقة من حقائق الحياة اليومية، وأن مشاريع وجهود الإصلاح على امتداد اكثر من قرن من الزمان لم تفلح في تفكيك بنية الاستبداد.
وقد مرت مشاريع الإصلاح بمحطتين منفصلتين:
المحطة الأولى: في أعقاب الصدمة الحضارية الأولى بالغرب في أواخر القرن الثامن عشر وما جلبه المستعمر الفرنسي في ركابه من مظاهر تحديث، فانشغل الآباء النهضويون بمواجهة التحدي الكبير عبر التساؤل القلق: لماذا تقدم الآخرون وتخلفنا؟! لقد بذلت جهودا كبيرة في محاولة تشخيص الداء والدواء، فعرفت دول عربية دساتير ونظماً انتخابية وبرلمانات وصحفاً وأحزاب معارضة وتداولاً للسلطة وحريات فكر ورأي أثمرت إبداعاً فنياً وثقافياً ورواداً عظماء في كل فن، ولكن كل ذلك تم في ظل الراعي الأجنبي الذي كان يرعى الوليد الديمقراطي، فما أن رحل وجاء الراعي الوطني، اقتلعت رياح الثورة الشجرة الوليدة التي لم تتمكن من أن تضرب جذورها في الأرض.
المحطة الثانية: في أعقاب الهجوم الإرهابي9/11 الذي لم يهز أميركا فحسب، بل هز العالم العربي أيضاً، فتداعى لمراجعة أوضاعه السياسية والتعليمية والثقافية، فشهدت الأرض العربية انتخابات نزيهة، وحصلت المرأة العربية على حقوقها السياسية، وبدأت عمليات ضخمة لمراجعة المناهج والخطاب الديني، والوضع السياسي، ووضعت دساتير حديثة، وصدرت تشريعات حقوق الإنسان، إلا أن المحصلة النهائية للإصلاح، لم تتجاوز القشور الخارجية، وظلت ثقافة الاستبداد راسخة الجذور في الأرض العربية، والسؤال: لماذا صمد حكم الفرد رغم كل الجهود الإصلاحية، ورغم الهزائم والانكسارات؟!
ذلك لأن الإعجاب بحكم الفرد ثقافة راسخة الجذور في الوعي الجمعي العربي، وله امتداد طويل في العمق التاريخي، ومحصن بتفسيرات تراثية فقهية، علينا مصارحة أنفسنا، الفرد العربي لا يجد في حكم الفرد أي نقيصة، لأنه هو نفسه، يمارسه في حياته اليومية: في بيته، في مدرسته، في عمله، وفِي علاقاته مع الآخرين، الثقافة العربية لا زالت مؤمنة بأن حكم الفرد أصلح لمجتمعاتنا، وأضمن للاستقرار والأمن، وأمنع للفوضى والفتن السياسية والطائفية، من الحكم الديمقراطي الذي تتنازعه الأهواء الحزبية والعشائرية والطائفية، إن نظرة المجتمع العربي لحكم الفرد، أنه الأنسب والأوفق، وان صرامة الحكم، حزم مطلوب، وذلك ينسجم مع التصور النمطي التاريخي للخلافة الإسلامية، لقد تقبل المجتمع العربي نظام الخلافة قروناً طويلة، بل إن غالبية الجماعات الدينية تستميت في سبيل عودة الخلافة، وترى الديمقراطية بدعة مستوردة، تقوم على مشاركة الرعاع والدهماء والعامة الذي ينقادون للأهواء.
ختاماً: لن يتجاوز المجتمع العربي ثقافة الاستبداد، إلا بتفكيك الموروث الثقافي الاجتماعي الذي هيأ الناس لقبول الاستبداد والتعايش معه والإلف به كأمر طبيعي مقبول.
د. عبدالحميد الأنصاري بقلم:
copy short url   نسخ
01/05/2017
3834