+ A
A -
مَن المثقف؟
ما دور المثقف؟
كيف يَنبغي أن تَكُونَ رسالةُ المثقف؟
وما محل المثقف من الإعراب في وقتنا الراهن؟..
أسئلة كهذه وأخرى غيرها نُبادر بطرحها يقيناً ونحن نَرسم أكثر من علامة تعجب واستفهام حول واقع حال المثقف العربي بين الحضور والغياب.
عندما نتحدث عن المثقف، فنحن نقف عند مسؤولية كبيرة نُلاحظ أن عدداً ممن يُسَمّون أنفسَهم بالمثقفين يتملصون منها.
والسؤال الذي يُطِلُّ من شرفة التأمل هو:
هل مردّ هذا التملص التجاهلُ وغيابُ التعاطف في زمنِ ثورةِ القسوة على الحُبّ أم الخوفُ في زمن الرعب؟!
الواضح أن الدورَ الذي يَضطلع به المثقفُ هو دور حَسَّاس للغاية، بل يَبدو لي أحياناً قريباً شيئاً ما من دور رجُل الدين مع اختلاف الْمَرَامِي والغايات.
ما يَشهده عالَم اليوم هو حضور باهت للمثقف الحقيقي، في المقابل نَجِدُ أنفسنا أمام لائحة طويلة ممن يَصِحّ أن نُطْلِقَ عليهم المثقفين الأشباح.
ماذا نُسَمِّي رجُلَ الثقافة الذي لا يَحْمل هَمّاً ولا قضية؟!
ماذا نسمي هذا المثقف سوى أنه مثقف مع وقف التنفيذ؟!
ماذا نسمي المثقف الذي لا يَشغله شاغل سوى البحث عن الأضواء والنجومية في غياب الإحساس بالمسؤولية؟!
لماذا أقف عند خطورة غياب الإحساس بالمسؤولية؟ لأن الرسالةَ الحقيقية للمثقف العربي هي خدمة المجتمع العربي، خصوصاً في هذه الآونة التي يَشتعل فيها الوضع العربي اشتعالاً ويَغْلي غلياناً..
الإحساسُ بالمسؤولية عند المثقف هو النَّصُّ الغائب إلا عن قِلَّة.. ولا أَدَلّ على هذا من القضايا المصيرية والأزمات التي تأتي في طليعتها الأزمة السورية التي شَكَّلَت امتحاناً للمثقفين لَمَّا وضَعَتْهم على المِحَكّ (تجربة واختباراً).
فأَخْطَر سؤال يُواجه المثقفَ في محنة كالمحنة السورية وما شابهها هو أن تَقول بصوتٍ مرفوع إنك «مَعَ» أو «ضِدّ».. وهنا يحتاج المثقف إلى أن يُلَمْلِمَ جرأتَه وشجاعتَه لِيُعَبِّرَ عن رأيه دون خوف.
هذا الخوف هو الذي يَقود إلى التعرف إلى المثقفين الأشباح، المثقفين الذين يتواطأ الواحدُ منهم بصمتِه مع الظالِم ضِدّ المظلوم رَغبةً في حماية مصالحه.
ماذا يَفعل وكيف يَتصرف حين يَجِدُ نفسَه في موقف صعب، فإذا هو أرضى طرفاً لا شكَّ في أنه سيُغْضِبُ الطرفَ الآخَرَ، والويلُ له ممن يَغضبُ منه.
أن تَكون مثقفاً ليس معناه أن ترتدي قميصاً ذهبي اللون لتتباهى بنفسك بين أقرانك من المثقفين الحقيقيين أو الأشباح.
أن تَكون مثقفاً معناه أن تَتَّخِذَ رأياً وموقفاً، معناه أن تُؤْمِنَ بالقضية..
أن تَكون مثقفاً معناه أن تَكون في المقدمة بِصَوْتِكَ الذي يَعْلُو دفاعاً عَمَّنْ يَستحقون الدفاعَ عنهم مهما نلْتَ من ضربات.. أَلَيْسَ الفاشل (على صعيد حياته الشخصية) ابراهام لنكولن الناجح نَفْسُه الذي حَظِيَ برئاسة أقوى دولة في العالَم هو مَن أعطانا درساً في الصمود والثورة على أسباب الخوف لما قال: «انهضوا أيها العبيد، فإنكم لا ترونهم كبارا إلا لأنكم ساجدون»؟!
أن تَكون مثقفاً معناه أنك تَقِفُ أمام الخطر المحدِّق بِصَدْرٍ عارٍ مستعدا لِتَلَقِّي أيّ ضربة.. تَقِفُ وقْفةَ رَجُل..
لَسْتَ في حاجة إلى سُتْرَةٍ واقية، الجبانُ وحده من يحتاج إليها لِيُمَارِسَ طقوسَ هروبه..
أمّا أن تَظهرَ في الأيام المشمسة وتَقطفَ عِنَبَ الإعجاب، وتختفي في الأيام المرعدة بالفوضى والتجاوزات، فهذا هو الجُبْنُ بعينه.
المطلوب منك باعتبارك مثقفاً حقيقياً هو الإصلاح، هو التوجيه، هو إعادة الحَقّ إلى صاحب الحَقّ..
وأنتَ تَتَحَسَّسُ كرسيك خَشْيَةَ أن يَنسحبَ كالبساط من تحت قدميكَ لَنْ تُفَكِّرَ يوماً في الآخَر ولا في مآسيه.
وأنتَ تُفَكِّرُ في تثبيت أُسُسِ ودعاماتِ سقفِ الأمان والحماية لك ولذويك فقط لن تُفكرَ يوما في أمان الآخَر ولا في حمايته بِذَوْدِكَ المشروع عنه.
وأنتَ تَستميت لتسييج الامتيازات التي تَحصل عليها لن تُفَكِّرَ يوما في استحقاقات الآخَر.
أكثر شيء يُميتُ النفْسَ هو تعظيمك للأنا وحِرصُك الشديد على أن تَضمنَ لها مقعداً ولو على حساب الآخَر الذي يُعميكَ زَهْوُكَ بذاتك النكرة عن أن تراه..
كيف تراه وأنتَ لا تَرى سِوى نَفْسِكَ، بينما الآخَر المسكين يُضطَهَدُ ويُهان، ويَستغيث صارخاً صَرخةَ إنسان، لكن لا حياة لمن تُنادي..
بِقَدْر ما ترتفع أنتَ يَتضاءل الآخَرُ وتَعصف به الأمراضُ التي تنتشر مع تلاشي الحِسّ الإنساني.
أَهُنَاكَ مَرض يَفتك بالشعوب أكثر من غياب الصحوة الإنسانية التي تَجعلك تُشاهد بقلبٍ بارد أخاك الإنسان وهو يَصرخ بغير صوتٍ وعيناه الذابلتان تَبكيان بغير الدموع التي ربما كُنْتَ تَعرفها ويداه تَكتبان ما يُكْتَبُ على شاهدةٍ وقد غَرِقَ في بحر الدمِ والألمِ؟!
يُعجبني ما قاله مالكوم إكس (بِغَضّ النظر عن توجهاته) في حق الإنسان هو الأميركي الإفريقي الأصل المدافع عن حقوق الإنسان: «أريد أن أَكون مع الحقيقة كيفما كان مصدرها، ومع العدل المجرد أيّاً كان المستفيد أو المتضرر منه، ومع الإنسان أولاً وقبل كل شيء ومع الإنسانية جمعاء».
اَلْمَشاهِد صاخبة أمامك بصرخات الوجع الدفينة التي لَسْتَ في حاجة إلى قراءتها حرفاً حرفاً في زمن الكتابة بالصورة.. الصورةُ تُبْهِر بإيضاحِها، ولَسْتَ في حاجة إلى أكثر من بوصلةٍ صالحة للاستعمال مكان قلبِكَ الميِّت لِتَدلَّك على ما يُنْتَظرَ منك أن تَفْعَلَه باسم رجُل الثقافة.
حَبَّذَا لو أن المجتمعَ العربي كان يَتوفر على مثقفين (غير المثقفين الأشباح) يُوازي عددُهم عددَ رجال الفن والطرب في هذه اللحظة التاريخية العربية الحاسمة..
اَلْمُعَوَّلُ عليه اليوم هو ما يُقَدِّمُه لنا رَجُلُ الثقافة من خدمات في ظِلّ ما أفسده المخرِّبون والطُّغاة. أمَّا فَصْل الرقص والطرب، فلا محل له من كتاب العرب.
لا شيء يَبْعث على الفَرَح لِتَطْرَبَ له أرواحُنا. لا يُوجد لدينا أكثر من مواويل رحلة الحزن والشتاء، ولن نَجْرُؤَ على الرقص الذي كانت تَهفو إليه قلوبُنا.. لن نرقص إلا على حبال أوجاعنا في زمن الصمت ورقصة الموت.
في انتظار أن يَخجلَ المثقفون الأشباح من تواريهم في اللحظة الحَرِجَة، فلا مكان للموت إلا الموت بِشَرَف من أجل حُرية، وإنسانية، وعروبة سَقطتْ عند رَصيفِ حُبِّ الذات، وقالَتْ: «هَيْهَاتَ أن أَقِفَ على قَدَمَيَّ.. هَيْهَات..».
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
29/04/2017
3785