+ A
A -
تلعب القوى الناعمة دورا مهما في تشكيل الوعي والارتقاء بالإبداع الإنساني. وفي أوقات الأزمات غالبا ما تكون الآلية التي يمكن اللجوء إليها للتعبئة والحشد نحو أهداف ومواقف بعينها لحل هذه الأزمات.
ولأن الحروب هي أقصى نقطة في تعقيد أزمة ما، تجد القوى الناعمة فيها المجال الأرحب لتشريح تعقيدات النفوس البشرية. ولكن الحروب تركت بصماتها من جهة أخرى على عديد الأعمال الإبداعية في اتجاه أخر مختلف يقع في دائرة تشكيل الوعي الإنساني والتعبئة والحشد وتغيير المفاهيم لصالح إحداث تحولات سياسية وديموجرافية في حاضر ومستقبل مسيرة الأمم وأنظمة الحكم.
ما يدفع إلى الاهتمام بموقف القوى الناعمة العربية من الحروب، هو أن واقعنا العربي يعيش عددا من الحروب التي من المؤكد تعيد صياغة حاضره ومستقبله، ليس هو وحده، بل قطاع كبير من العالم المحيط به إقليميا كان أم عالميا. ولذلك لا مفر أمام القوى الناعمة العربية من مواجهة السؤال العاجل، ألا وهو ما الذي أنتجته أو ما سوف تنتجه بخصوص تفاعلها مع واقع الحروب الراهنة،هل تلجأ- مثلما فعل الغرب المنتصر قديما أم تذهب إلى طريق مختلف؟.
واقع الأمر أن «حروبنا العربية» المعاصرة لا تنطبق عليها قواعد النظر للحروب العالمية القديمة ولا بالطبع مقولة المنتصر دائما على حق، أو أن هناك منتصر وحيد وخاسرين كثر. فهناك فوارق في التشخيص وطبيعة الحروب ذاتها.
أولا «حروبنا العربية» المعاصرة حروب بين قوى المجتمع داخل كل دائرة ساخنة تشهد حربا مشتعلة، وليست بين دول بجيوشها الجرارة وحكوماتها العتيدة راسخة البنيان. ودون التقليل من الدور الدولي الخارجي، فإن حروبنا المعاصرة تبقى «حروبا بالوكالة» أي حروب تقوم بها قوى داخلية نيابة عن الدول التي تطلب منها ذلك.
وثانيا حروبنا بالغة التعقيد والتشابك في عناصر اشتعالها والقوى التي تقوم بها. صحيح أنها انعكاس للصراع على السلطة أو تطبيق لقاعدة أن السلطة تكون للقوى المتغلبة، ولكنها تعدت هذا الهدف إلى العمل على إفناء كل طرف لخصمه.. حروب بين طوائف ومذاهب وفئات اجتماعية فقيرة كانت أم غنية.. حروب الكل ضد الكل!. هنا لم تعد الحروب صراعا على مصالح وإقامة إمبراطوريات على حساب إمبراطوريات أخرى، بل صراع على هويات وثقافات وانتماءات مستجدة داخل وطن واحد جغرافيا. لم يعد مفهوم الوطن كما عرفته الأجيال التي خاضت مرحلة الاستقلال الوطني قائما.
وثالثا تفوق الكلفة الإنسانية «لحروبنا العربية» كلفة الحروب العالمية القديمة. صحيح أن تلك الحروب راح ضحيتها عشرات الملايين من الناس، إلا أن الكلفة الإنسانية للحروب الجارية عربيا تفوق السوابق. فعالمنا العربي الذي يفوق عدد سكانه الـ 300 مليون نسمة مهدد معظمة بالفناء ليس فقط على مستوى الموت المباشر من جراء المعارك في النقاط الساخنة وإنما على مستوى الواقع الحي حيث يتدنى مستوى المعيشة إلى حد مخيف فالملايين اليوم هم كالأموات الأحياء من شدة الفقر وفقدان الخدمات. الشعب السوري نصفه أو لأكثر يعيش لاجئا هائما على وجهه والباقي ينتظر الموت تحت خطر الإرهاب أو القمع. والقطاع الأكبر من اليمنيين على شفا المجاعة. والشعب الليبي ليس بعيدا عن هذا الحال بشكل أو بأخر.
ليس في «حروبنا العربية» المعاصرة إذن منتصر أو خاسر (أو مهزوم) بل الكل خاسر في حقيقة الأمر ولا أحد يستطيع الإدعاء بأنه المنتصر. ولذلك فإن القوى العربية الناعمة لا يصح أن تتعامل مع هذه الحروب بنفس قواعد التعامل مع الحروب العالمية القديمة ولا بمقولة المنتصر دائما على حق فلا أحد ينطبق عليه هذا الوصف.تستنكر وتدين الوضع برمته ولا تبرئ أحدا. رسالتها المنتظرة هي طى صفحة الماضي والاتفاق على العيش المشترك الذي لا يقصى أحدا مهما كانت حدة الخلاف معه، وبناء مستقبل خال من الكراهية، بشرط أن تعمل باستقلالية كاملة.
بقلم : د. عبدالعاطي محمد
copy short url   نسخ
29/04/2017
2660