+ A
A -
لا أقصد عبدالله إبراهيم السياسي المخضرم الذي تولى رئاسة الحكومة في المغرب بين عامي 1958 و1960، وإنما المفكر العراقي الموسوعي الدكتور عبدالله إبراهيم الذي قدم للعرب تراثاً فكرياً رصيناً يستحق منهم أن ينتبهوا إليه ويعتنوا به.
ولد عبدالله إبراهيم عام 1957 لأسرة عربية تعيش في شمال العراق وبالتحديد في كركوك. هناك نشأ فعرف الآخر الكردي مبكراً. ثم انتقل إلى العاصمة العراقية ليدرس في جامعة بغداد وليحصل منها في 1981 على البكالوريوس في اللغة العربية ثم الماجستير في الأدب العربي فالدكتوراه في تخصص السرديات في 1991 ليصبح من بعدها أستاذاً للأدب العربي في الجامعة المستنصرية. وخلال سنواته البغدادية تعرف على كل آخر غير سني وغير عربي احتضنته بغداد من شيعة وسريان وتركمان. ثم غادر العراق فطاف حول العالم متعرفاً على كل آخر وجده جاعلاً من الرحلات مصدراً مباشراً للمعرفة. سمع من الجميع سردياتهم وكوّن بدوره سردياته متجاوزاً كل الحواجز المذهبية والطائفية والإثنية التي لا يزال كثير من البشر مقيدين بها.
عرف أن «الأنا» و«الآخر» عبارة عن صور تتسرب ثم تترسب في الذهن عبر مرويات لا تنتهي، كل مروية جديدة تغير بالحذف والإضافة كل مروية سبقتها. وبفضل مثابرته على دراسة أصول التفكير النقدي اكتشف قيمة السردية وأنها تصلح مدخلاً للفهم والتغيير فكان أن تخصص في دراسة السرديات، وهي القصص التي نرويها عن أنفسنا وعن غيرنا مدافعين عنها بل وقد نموت أحياناً من أجلها باعتبارها الحقيقة مع أنها مجرد حكاية.
تبنى عبدالله إبراهيم السرديات منهجاً فراح يَشرَحُها ويُشرّحها مراكماً تراثاً قيماً ظل يكبر كل عام حتى وصل إلى عشرين كتاب ومئات الأبحاث بجانب موسوعة متكاملة للسرد العربي تقع في أكثر من 4000 صفحة. وخلال رحلة عطاء فكري خصبة فكك الدكتور إبراهيم وأعاد تركيب عشرات الصور والانطباعات التي سجن ملايين الناس أنفسهم فيها ولا يزالون. فكك مثلاً صورة الآخر في كتابه الثمين «المركزية الغربية» وفكك صورة الذات عن نفسها من خلال كتاب آخر بعنوان «المركزية الإسلامية». وفي هذين الكتابين وعديد من كتبه القيمة اتخذ السردية منظوراً معرفياً موضحاً وظيفتها في بناء الأفكار والإيحاء باليقين والتشجيع على السلوك.
فنحن باختصار نتاجٌ للقصص التي نشأنا عليها واقتنعنا بها واعتبرناها صدقاً ولا صدق غيرها. الليبرالية مثلاً والشيوعية والإسلاموية والطائفية والغرب وآسيا وإفريقيا كلها سرديات وصلت إلينا بالاستعارة والأخذ ممن يسميهم الدكتور إبراهيم «بالوسيط السردي»، وهم كل من يلعب دوراً مؤثراً في ترسيخ المصطلحات والدلالات في الاذهان ويتحكمون في تفاعل الناس مع الفكرة لينشأ ما أسماه «ببئر الدلالة» وهي بنية مركبة ينهل منها كل فرد متخيلاته مثلاً عن المسلم والغربي والمرأة والأندلس وكل شيء حوله لينمو عبر تناقل الحكايات موروثاً سردياً مليئاً بالالتباسات والإحالات والاستعارات والدلالات المتعارضة. هذا الموروث السردي في حاجة دائمة للفك والتركيب وكي لا يتحول إلى أغلال تسجن العقل وتمنع التغيير.
ومع أن الدكتور إبراهيم وظف المنهج السردي غالباً في معالجات أدبية وثقافية شيقة إلا أنه طبقه أيضاً على قضايا أخرى تتصل بالمجتمع والسياسة والحضارة والتاريخ. ولم يكن سهلاً في الحالتين تقبل منهجه السردي التفكيكي في مجتمعات جامدة معرفياً اعتادت أن تلتصق بقوة بأفكارها القديمة وأن تعاند من يدعونها لإعادة النظر فيها. لكن الدكتور إبراهيم واصل عبر أربعين سنة إلقاء الأحجار في الماء الآسن مراجعاً مئات السرديات الأدبية والسياسية والاجتماعية العربية داعياً إلى تخطي التفكير بالأوهام والثقة في قدرة العقل على الإلهام.
من هنا يعتبر عبدالله إبراهيم نموذجاً للمثقف الفلسفي الذي قدم رؤية مختلفة ومنظوراً جديداً لتغيير المجتمع. فتغيير المجتمع يبدأ بتغيير السرديات المهيمنة بكل ما فيها من إيحاءات مغلوطة ودلالات زائفة. وهذه المهمة وإن كانت في حاجة إلى مثقف فيلسوف يبدؤها، مثل الدكتور إبراهيم، إلا أنها لا تقف عنده وإنما تحتاج إلى أن يساعده كلٌ من المثقف البرامجي الذي يحول رؤية المثقف الفيلسوف إلى تطبيقات وبرامج عمل، والمثقف الإجرائي الذي يشرح لعامة الناس بلغة بسيطة محببة ما في تلك الفلسفة والبرامج.
إن الدكتور عبدالله إبراهيم رائد من رواد التنوير العربي في القرن الحادي والعشرين. كرس رحلته العلمية لتحرير العقل من أوهام السرديات وقدم إنتاجاً منهجياً يشرح كيف أن كل سردية لها سردية مضادة تفككها وتعارضها. فتحية إلى هذا العالم المبدع ودعوة لقراءة بعض أعماله للتعرف على أصول تفكيك السرديات وطلاسم الدلالات. لقد ارتقى بأعماله القيمة فاستحق جوائز رفيعة من بينها جائزتي الملك فيصل العالمية للآداب وجائزة الشيخ زايد للدراسات النقدية. إنه مثقف مسؤول يتحلى بشجاعة عكستها كتاباته الأكاديمية الرصينة. وسوف يتضح ذلك أكثر عندما تصدر قريباً مذكراته الشخصية التي سيحكي فيها عن موجات من تجاربه الإنسانية وسرديات يفكك من خلالها رحلته الإنسانية الشيقة.
بقلم:إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
24/04/2017
3791