+ A
A -

الأصابع طريقك إلى أجود أنواع الحرير.. والحرير قد يَكون لُغَةً.. واللغة قُدُراتٌ وطاقةٌ ثِقْ بأن عددا ممن حولك يَفتقر إليها أو يُسيء توظيفَها في أحسن الأحوال.
شعرتُ بالخجل وأنا أقرأ نصا أفرطَتْ صاحبتُه في إضرارها بلُغَتِه وكأنها ورقة ممزَّقة ستُلقي بها أو كأنها كُرَة ستضربها رَكْلاً لِتَتَدَحْرَجَ بها إلى القاع، ولم تَحسبْ صاحبةُ النص أن النصَّ مُوَجَّهٌ إلى قُرّاء من العيب والتقصير ألا تعتني بما تُوجهه إليهم من كلمات..
كلمات الكُتَّاب مصابيح تُضيءُ دروبَ حياة القارئ، تُساعد أحيانا على حلّ ما استعصى عليه، وتُخفف عنه أحيانا أخرى جَفَاءَ ما يتخبط فيه من واقع يَقْبَلُه بمرارة..
الكلمات تُسَهِّل الحياة، وتُطَيِّب الأوقات.. وأَوَّلُ ما يَشُدُّك إلى كاتب من الكُتَّاب لُغَتُه.
الكاتبُ يُضيف إلى رصيدك المعرفي الشيءَ الكثيرَ في تخصصه وغير تخصصه، لكن أول ما يَصُل إليكَ لُغَتُهُ. فإما أن تَكون لك لُغَتُه بمثابة مُعَطِّر الهواء إذا كانت في المستوى الذي يَليق بك وبه، وإما أن تَكون لك لُغَتُه بمثابة العدوى التي تنتقل إليك فتُفْسِد لُغَتَك إذا كنتَ تتعلم منه..
لغتُك مرآتُك التي يَراك فيها الآخرون قبل أن تَرى فيها نفسَك. فاحرصْ على أن تكون صورتُك في عيونهم تُرْضيكَ قبل أن تُرْضيهم.
افْتَحُ قوسا لأقول لمَن يهمهم الأمرُ: «اِتَّقُوا اللهَ في اللغة»، فلن تتصوروا درجة القُصور اللغوي التي بَلغَها بعضُ الكُتّاب الذين مِن الْمُخْجِلِ أن يَضَعُوا المنبرَ الناشرَ في موقف مُحْرِج أمام القارئ، لأنهم يرفعون ما يُنصَب ويَنصبون ما يُرفَع، ولا علاقة لهم بقواعد نَصب الأفعال الخمسة بحَذْف النون وجَزْم الفعل الْمُعْتَلّ الآخِر بحَذْف حرف العِلَّة، فما بالك برَفْعِهم لجَمْع الْمُذَكَّر السَّالِم بالياء ونَصبهم للمُثَنَّى بالألف ونَصب جَمع المؤنَّث السالم بغير الكَسرة النائبة عن الفَتحة..!
إذا كنتَ تَكتب في جريدة، فلا تَنْسَ أنها وضعَتْ ثِقَتَها فيك لما فَتَحَتْ لك نافذةً على القُرَّاء فلا تَضَعْها في مَوقِف مُحْرِج وأنتَ تُرْهِقُ القارئَ بمقالِك الصَّارِخ بالأخطاء اللغوية..
حاجتُنا ماسَّة إلى أصابع تَنْسج حريرا، وإذا لم تَكُنْ تَنسج حريرا فَلْتُحَافِظْ على الأقل على صحة اللغة العربية كما نَحْرص على تعليمها للأجيال.
لا أُخْفيكم مدى إعجابي بلُغَة مَن يُجَوِّدُونَ اللغةَ رغم أنهم يَقْدَمُون من حقول لا علاقة لها باللغة، وهذا زميلنا الدكتور السيد أحمد برايا يَسْتَحِقُّ الثناءَ وهو يَجْتَذِبُنَا بِسِحر التعبير وحِكمة التصوير ويَتَصَبَّبُ شاعريةً كأن يقول في مُسْتَهَلّ مقالٍ من مقالاته الشيقة والثرية بحمولتها المعرفية: «على وسادة من حرير الحزن المتوحد مع شغف المعرفة يشكل نهرا من الألم..» (د. أحمد برايا، مقال: التوحد.. الحياة على جناح فراشة).
فالدكتور السيد أحمد عازِفٌ بارِع على آلةِ اللغةِ هو الهارِبُ من مُخْتَبَراتِ العلوم الصِّحِّية التَّوَّاقة إلى تَجْمِيلِ وَجْهِ الحياة. إنه يَتفنن في استخدام اللغة على امتداد جَسَد الكتابة كما يَتفنن لاعِب بأصابعه التي تتراقصُ بـ «هَارْمُونِية» على لوحة بيانو لِتَخلق َكَوْناً موسيقيا يَطْرَبُ لَهُ الباحثُ عن الذوق الرفيع في صناعة المعنى.
ربما من العَدْل أن تَتَسامَحَ مع تقصير لغوي صادِر عمن تخصصوا في غير اللغة والأدب، إذ هُمْ يَجتهدون حتى لا يَنقصَ لغتَهم السُّكَّرُ. لكن ما العمل إذا كان الأمر يَتعلق بكاتب عمود من المفروض أن يَضبطَ لُغَةَ مقالِه ويُراجعه مِراراً قبل أن يَسْمَحَ بخروجه إلى النور؟!
حقيقةً ما أرقّ الارتقاء إلى مستوى أناقةِ الحرفِ لُغَةً ومَبْنى ومَعْنى. ومن هنا نبدأ إذا أَرَدْنَا إنقاذَ اللغة من السُّقوط:
- تَأَنَّقْ في لُغَتِك كما تَحْرِصُ على التَّأَنُّق في لباسك وتَأْثيثِ بيتِك..
- كُنْ راقيا بلغتك كما تُحِبُّ أن تَكونَ راقيا بحديثك في مَجلِس.
- اِبْحَثْ لكِتابِ قواعد اللغة العربية عن مكان في مكتبتك إلى جانب «لسان العرب» و«المنهل» و«المورد» والأنسيكلوبيديا.. واحْرصْ في أوقات فَراغِك على فَهم قواعد اللغة لِتُطَبِّقَها بِأَرْيَحِيَّة.
- تَابِعْ مع أطفالك الرسومَ المتحركة المترجَمة إلى اللغة العربية لِتَضْربَ عصفورين بحجر: أولا، تَتَعَوَّد على اللغة أنتَ وطفلك. ثانيا، تَقترب من عالم قصص الأطفال وتتأكد من خُلُوِّه من العُنْف حتى تَسمحَ لصغيرك بمتابعته خشيةَ أن يُصبحَ عُدوانيا.
- لا تَسْتَهِنْ باللغة العربية وأنت تُرسِل طفلَك إلى مؤسسة التعليم الخاصة التي تُعَوِّلُ على اللغة الأجنبية، واحْرصْ على مراجعة دروس اللغة العربية مع طفلك حتى تُعَوِّدَه على طلاقة اللسان كلما تَعَلَّقَ الأمرُ بالعربية الفصحى.
- دَرِّبْ طِفلَك على تخصيص وقت لقراءة القصص باللغة العربية، وجميل أن تَقْرَأَها قبلَه لأن لغتَها مبسَّطة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تُلِمّ أنتَ بالعالَم القَصصي الذي سيتسلل إليه طفلُك وتَعْرف هل يُناسبه أم لا.
- عَوِّدْ طفلَك على قراءة القرآن الكريم، فهو أكثر ما يَجْعَلُه يَتَمكن من اللغة، وإذا لم يَجِد الوقتَ فليَحرص على قراءة وحِفْظ سورةٍ قرآنية أسبوعيا بعد أن تُفَسِّرَها له اعتمادا على واحد من كتب التفسير، بهذه الطريقة فأنتما معا تَضْبِطان قواعد اللغة وتُضيفان إلى رصيدِكما من مُعْجَم اللغة الشيءَ الكثيرَ.
- مراكز حِفظ القرآن نِعْمَ الخَدُوم، وما أَجْمَل أن تُسَجِّلَ طِفلَك بواحد منها، فهناك مُؤَطِّرون يَحْرِصون على تقوية الوازع الديني عند ابنِكَ، كما يُعَبِّدُون طريقَه إلى اللغة السليمة.
- لا تُمانِعْ عندما يَتعلَّق الأمر برغبة طِفلِك في الإنصات إلى أغاني الأطفال إذا كانت باللغة العربية، فأنتَ مرة أخرى تُرَبِّي فيه الأُذُنَ الموسيقية وتُلَيِّنُ لسانَه لِنُطْق اللغة بسلاسة.
- دَعْ ابْنَك يَنْفَتِح على المشاركة في تجارب الأداء المسرحي المدرسي باللغة العربية، وحَفِّزْه على ارْتِجَال أكثر من نَصّ يُوازي النصَّ المكتوبَ.
- كُنْ مُوَفَّقاً في اختيار البرامج الحوارية التي تَتَّكِئ على اللغة العربية وتُناسِب ابْنَك لِيُشارِكَكَ في مُتابعتِها حتى تَجري العربيةُ الفصحى في لسانه جَرَيَان الماء في النهر.
وأخيرا أرى ضَرُورَةَ أن نَحرصَ باعتبارنا كُتَّاباً على أن نُبَسِّطَ اللغةَ للقارئ من خلال الفَصْل بين كلمة وكلمة عن طريق ضَبْطِ الصَّعبِ منها بالشَّكل.
لَمْ أُفَكِّرْ يوما في شكلِ عدد هائل من كلمات مقالاتي لو لم أَسْقطْ في التباس المعنى مرةً في مقالٍ بين كلمتين: «تجدي» و«تجدي»، لكن الأولى تعني «تَنْفَع» (تُجْدِي)، والثانية فعل مجزوم بِـ «لَمْ» (تَجِدِي)، مع أني كنتُ أَقْصد في مقالي المعنى الأول، لكن بما أنني لم أَضْبط الكلمةَ بالشكل وجدْتُ الْمُصححَ يُضيف النُّون فتحولَت الكلمةُ إلى «تَجِدِينَ».
هذه الهفوةُ علَّمَتني دَرسَ العناية ما أَمْكَن بِشَكل الكلمات التي تحتاج إلى شَكل حتى نُوفِّرَ على القارئ غير المتخصص مسافةَ أن نُرْهِقَه بالبحث عن معنى، لاسيما وأن كلمات كثيرة في اللغة العربية الفصحى (دون شكل) تُؤَدِّي أكثر مِن معنى. وأَبْسَط مثال:
[قِدْر: وِعاء نَطبُخُ فيه الطعامَ/ قَدْر: مكانة ومنزلة وشَأْن / قَدَر: قَضاء الله..].
[وَجِلٌ: خائف/ وَجَلٌ: خَوْف/ وَجَلَّ: الواو حرف عطف، «جَلَّ» بمعنى «عَظُمَ» لاسم الجلالة (الله)..].
أسعدني أن بعضَ الزملاء انتبهوا إلى أهمية شَكل ما يحتاج إلى شكلٍ من مُفْرَدات في مقالاتهم، وهذا إنما يدلّ على أن الواحدَ من هؤلاء يقرأ لي ويتابعني تماما كما أقرأ له وأتابعه، وفي هذا انتصار للغتنا التي أعشقها. فليتنا نُشَجِّعُ القارئَ على متابعتنا لتَصِلَ إليه كُلّ فكرة تَليقُ به وتَخدُمُه انطلاقا من لُغَةٍ يُعْجَبُ بها ويَحترمها ونسعى جميعا إلى أن نَخْدُمَها لِتَبْقَى.
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
15/04/2017
5562