+ A
A -
- الصور ناطقة، بل تَقول أكثر مما قد تَتَفَوَّهُ به الكلماتُ!.
خان شيخون تُحاكِم العروبةَ أم أن التاريخَ سَيُحاكِم كُلَّ شيطان أخرس ساكت عن الحق؟!
ما يكون وَقْع المشهد السوري الأخير على نفسك وأنتَ تُعايِن صور الأطفال الملقاة جثثهم على الأرض وكأنهم قطط ميتة في الشارع؟!
أنتَ كمواطن عربي يجري في شرايينك الدم العربي ما شعورك وأنتَ تَضمّ اليدَ إلى اليد وتكتفي بالفرجة: هل يَغلي دمك غليانا وتنهار أمام الألم، أم أنك تتثاءب مستسلما للنوم وكأن الأمر لا يَعنيك؟!
لا تَقُل لي إنك تَضمّ اليدَ إلى اليد لتلقي بنفسك من أعلى قمةِ غضبٍ واضعا حدا لمهزلة الحياة وثائرا على واقع العجز كما يفعل النسر! لو كان النسر مكاننا لكان أكثر مروءة منا، على الأقل هو لا يرضى بأن يستسلم، فإما أن يُضْرِبَ عن الحياة، وإما أن يتمرد على ضعفه ويضرب منقاره ومخالبَه عرض الصخر لينبت له منقار جديد ومخالب يُعيدان إليه بريقَ الشباب تزامنا مع تجديد ريشه.. صحيح أن ضريبة التغيير مكلِّفَة، لكن النتيجة أكيدة.
أَتُصَدِّقُ حقا أن هؤلاء الأطفال (أطفال خان شيخون) من صلب إنسان أم يتراءى لك الأمر كأنه يتعلق بجرذان؟!
الصور التي رأيتها عن مذبحة خان شيخون تُذيب الحجرَ حتى أن الألم بلغ مني مبلغه، ولهذا آثرْتُ الكتابةَ اليوم عن ضربة الأسد والضمير المنفصل بعد أن كنتُ قد أعددتُ للصفحة الثقافية موضوعا آخَر.
الحب يجعل منا ملوك الإحساس، والألم كذلك يجعلنا نُحِسّ كما لم نُحسّ من قبل، يجعل الواحدَ منا يُحِس كما يُحسّ إنسان مُرهَف قادَتْه مشاهداتُه إلى التفاعل إلى أبعد مدى، فينعكس الأمر على لغة عدد من الكُتّاب الذين تكفي منهم جملة واحدة لتُذيبَ القطبَ المتجمد الذي يُسمى قلبَ إنسان ألهاه الوقتُ عن أن يُنصت إلى صرخةِ موجوعٍ يَعبثُ الظلم بدمه ولحمه وعظمه..
الشاهد ما جاء في مقال «جريمة.. مدوية.. مروعة»! للكاتب محمد حمد المري، فقد استوقفتني لغته، لقد جاءت مزيجا من الألم والأمل، الألم وصفا لعمليات الجرح والذبح التي يقودُها طاغية، والأمل رغبة في التدخل ممن يهمهم الأمرُ لوضع حَدٍّ لنزف الطفولة العربية وما وازاها في سوريا.
من أرقّ ما ورد في الفقرات الأولى من المقال وأكثره تأثيرا وتسللا إلى قلب القارئ:
«أمام جثث الأطفال، تنطفئ اللغة، وتتلاشى العبارات» (محمد حمد المري، جريمة.. مدوية.. مروعة!) .
«لم يعد للكلمات معنى، أو بالأحرى لم تعد قادرة على التعبير عن المعنى» (المري، المقال).
«لا يوجد شيء قادر على وصف دموع الرجال، وبكاء النساء، حزنا وألما، ومن لا يتألم أمام طفل صغير خنقته غازات نظام جائر متوحش» (المري، المقال).
«حتى لو لم يكونوا أطفالا.. لو افترضنا أنهم قطيع من الخراف أو جول من الطيور.. من يقبل بقتلهم بهذه الطريقة؟!» (المري، المقال).
«لوهلة فكرتُ في قائد الطائرة الذي ضرب هؤلاء بالسلاح الكيميائي، تخيلته بين أطفاله، وتخيلته أيضا يسأل نفسه، وهو يشاهد الضحايا: ماذا لو أن أطفاله بينهم؟» (المري، المقال).
«لا يوجد شيء في قاموس الكلمات ولا في بحر اللغات قادر على وصف جريمة النظام السوري في خان شيخون، تعجز العبارات وتختفي التعبيرات لوصف مشهد تجاوز المشاعر والدموع وأدمى قلوب العالم الإنساني ولم يحرك شعرة من جسد المعتدين ومؤيديهم والصامتين بدون أحاسيس أو مشاعر كصمت القبور..!» (المري، المقال)..
كلما كان الألم عظيما كان الشعور به أعظم والتعبير عنه أعظم.
وفي «جريمة.. مدوية.. مروعة!» ما يبعث على التألم والاستمتاع، التألم نظرا لكَمّ جرعات المرارة التي من خلالها يَجسّ صاحبُ المقال نَبْضَ قطعة من قلب سوريا، والاستمتاع باللغة التي لم أتعود عليها في أسلوب صاحبها، وهذا إنما يدل على درجة تعاطف الكاتب مع مَن يَشرب من بحر النظام المالح الذي يَسلب السوريين حقوقهم حتى الحق في الطفولة..
مُسْحة الحزن من الطبيعي أن تَطبع المقالَ الذي يُسَلِّط الضوءَ على خُروق نظام مُسْتَأْسِد مصاب بجنون العظمة، لكنك يقينا ستستسلم لغواية اللغة ذات الأسلوب الإقناعي بفيض الأدلة المعتمَدة فيه، وبفيض حمولته العاطفية المؤثرة التي تلامس منطقةَ الإحساس عند القارئ وتُشعره بعمق الفجيعة التي تَقتل كل معنى للإنسان موازاة مع تقاعد ضميرنا المنفصل.
يا عالَم.. يا خَلق.. كيف يُعقَل أن يكون ضميرنا منفصلا في الوقت الذي يتصل فيه الضمير بمَن لا يمتون إلى العروبة بصلة، وها هي المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تُعلِن ثورَتَها واصفةً تردد مجلس الأمن الدولي في اتخاذ قرار بشأن الواقعة الأخيرة على أرض سوريا بـ «الفضيحة»؟!
عن استخدام القوة بلا منطق نتحدث، عند غياب العدالة نقف، ومن الدرجة الصفر للحياة في قلب سوريا نقترب، سوريا التي تكفي قراءة عابرة في الصورة الملتقَطة لمجازرها لنَلْعن صُنّاعَ الموت ونُعيد النظر في أسباب بقائنا إذا كانت هناك أسباب تُشجع بالفعل على البقاء.
لماذا يبقى ولمن يبقى وكيف يبقى هؤلاء المفجوعون المنهارون الذين يرون أطفالَهم يختنقون بالغازات ويَسقطون كأوراق الخريف ويُبْصِرون آباءهم وأمهاتهم وإخوتهم يفقدون أيديهم وأرجلهم وأطرافهم تباعا؟!
مرة قال بليز باسكال: «العدالة دون قوة عاجزة والقوة دون عدالة طاغية». فماذا يحدث في سوريا في غياب العدالة؟! لقد تحول واقع حالها إلى حياة في جحيم يهرب منه مَن يقوى على الهروب بينما تطير أشلاء مَن استعصى عليهم الرحيل.
هذا ثمن البقاء حيث لا أحد يَرحمك ولا شيء يَرحمك، حتى الموت الرحيم صَدِّقْ أنه كثير عليك في ظل قيادة لا تعترف بعدالة، لا تعترف سوى بالحرق والذبح والطحن والنطح وكأنك أمام ثيران لا إنسان.
يُرْفَعُ الحَرَج عن الطفل، عن المجنون.. أما ما يَصدر عن كبيرهم من تجاوزات فإنه لا يُرضي حبيبا ولا عدوا، ويجعلنا نُحَدِّثُ أنفسنا كالحمقى: أيكون حقيقةً ما نشاهده أم أَضْغَاث أَحْلام؟!
يتحدثون عن الإرهاب والإرهابي كبيرهم الصغير في عينيك، الوحش الذي تُصَفِّق له القرود في زمن المسُوخ..
كيف ولماذا وعلى أي أساس يجرؤ الأسد على ضرب ضربته ويتجاوز الخطوط بكل ألوانها ويستخدم الغازات الكيماوية ويتخلص من الشباب والأطفال والصبيان وكأنه يتخلص من فئران؟!
أفيقوا، أفيقوا يا مَن تنامون وتُنيمون ألسنتكم وأقلامَكم مع أن الأصل أن تُسَخِّروها لتغطية مواقف كهذه وخدمة مَن تَوَقَّفَ عندهم الزمنُ.
بين المثقف النائم والمثقف اليقظ الذي يَشْغله شاغل ضاعَت النخوة وتمزق قميص العروبة.
ليس دما كذبا، فهناك ذئاب تخطو خطى حثيثة لشرعنة قانون الغاب، ونهش المزيد من اللحم العربي..
التواطؤ جريمة، والسكوت جريمة..
جريمة منظَّمة وإبادة محكمة لا تخطر إلا على بال جزار يفعل بالبشر ما لا يجوز حتى للبقر..
أكثر شيء يُغِيظُك ويُتعبك في حياتك هو أن تمسح بعينيك المتعَبَتين صورا لأطفال لم يذوقوا شيئا من سُكَّر الطفولة، أطفال سَرق منهم الألمُ الابتسامةَ والرغبةَ في الحياة والقدرةَ، ومتى؟! عند حلول اليوم العالمي للاكتئاب.
تلك منظمة الصحة العالمية حريصة على مقاومة الاكتئاب، وذاك النظام الجائر يبذل قصارى جهده لتخريج دفعات من الموتى الأحياء، من المكتئبين.. ماذا يَعرف هو عن الحزن والدموع؟! ماذا يعرف عن تعب النفس والرغبة في وضع حد للحياة عندما تعجز الذات عن الاستمرار؟! الصور ناطقة، بل تقول أكثر مما قد تَتَفَوَّهُ به الكلماتُ..
الألم يتمدد، والدموع بحر.
مقال «جريمة.. مدوية.. مروعة!» للكاتب محمد حمد المري-جريدة الوطن - 6/ابريل 2017».

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
08/04/2017
4748