+ A
A -

- الأَلَمُ بَحْر، والجَسَدُ قَارِب. لا أَعِدُكَ بِوُصُول آمِن.
امرأة.. جَسَد.. هَذَيَان.. ذاكِرة.. أشياء كهذه يَحْمِلُها طائرُ الوقتِ المسافرُ لِيَحُطَّ بها في غابة الظلام..
غابة الظلام لا تَخرج على دهاليز يَرسم حدودَها كَونٌ خاص جدا يَسمح بأن نُطْلِقَ عليه قَبْوَ الأنوثة الْمُهْمَلَة أو المنسية رَكْناً على رَفِّ خِزانةِ الزمن..
الأنوثة على مشارف الانهيار، أو لِتَكُن الأنوثة الآيلة للسقوط الْمُشَفَّر إحالةً على سقوط أكبر يُجَسِّدُه جدارُ برلين، الوجه الآخَر للجَسَد..
عوالم تنقلنا إليها البولونية الْمَوْلِد كريستا فولف WOLF على مدار روايتها الْمُسَمَّاة «هذا الجسد» (ترجمة: كاميران حوج).
السرد النسوي له تدفقاته وانثيالاته التي لا يفقهها الرجُل كلما كان الجسد محورا للكتابة النسوية.. لكن ثمّة فرقاً شاسعاً بين الجسد باعتباره ماهية والجسد باعتباره وُجوداً يَسبق الماهية.
في رواية كريستا يَحْضُرُ الإسقاطُ بقوة، وتتجاوز اللحظةُ الإنسانية الأنثوية زمنَها لِتَلتحم باللحظة السياسية في مشهد تاريخي يُعيدُ نفسَه بأدوات السرد التحليلي إيحاءً.
«ينسحب الوعي، يتداعى.. يصدر ذلك الضجيج الذي يصم الآذان هذه المرة من سرب طائرات.. لابد أن يكون لتصوير جميع أنواع القرابين البشرية أمام عينيّ غاية ما.. لقد لقّنا أن كل حدث يصير رمزا، يبرهن على رمزيته، بأن يسرد على أنه تاريخ» (كريستا فولف، هذا الجسد).
قراءة أدبية لواقع سياسي تَتوسل بها كريستا من باب محاكمة التاريخ، أو (لِمَ لا) محاكمة الذات الشاهدة على التاريخ..
لسنا بصدد استعراض خصوصية الذات الرافضة مُقاوَمَةً لِمَنْظُومَةٍ تاريخية بِقَدْر ما نَحْفِلُ بجمالية الوقوف عند البعد الانعكاسي للمُكَوِّن التاريخي على النَّسَق الجسدي..
«أرجوكم لا تعيدوا عليّ صليل السلاح.. في المرة القادمة سأعترف بجميل السكون في رأسي وفراغه من الصور. الآن عليّ أن أتحمل ضجيج الجحيم وملامح المعذبين، الذين يجرجرون أنفسهم عبر التاريخ وينظرون إليّ من داخلي.. يتبين لي المعنى السّرّي للمعاناة» (كريستا فولف، هذا الجسد).
سَفَر في غياهب الجسد تَخُوضُهُ كريستا من خلال الإبحار في تجربة الكتابة عن الجسد وحُجُرَاتِه الداخلية. تَصِفُ لنا كريستا جانبا من ذاك العالَم الخفي لبطلتها الغريبة التركيبة قائلة:
«تغمض عينيها وتتهاوى في حجراتها الداخلية السوداء الرمادية.. تطفو فوق الماء الراكد.. حياة الإنسان مثل الماء.. –هيه، لا تنامي-.. صوت مزعج.. تغطس.. يخضها قرع في الداخل، لا تتعرفه من فوره.. ألا يأتي من القلب؟ فمَن سِواه يصخب هكذا.. خببا.. أحدهم ينادي من جديد.. فلتجتمع كل القوى لفتح العينين..» (كريستا فولف، هذا الجسد).
سيرورةُ الكتابة عن حجرات جسد كريستا عنوانها مونولوغ طويل، متقطِّع تَقَطُّع أنفاس البطلة، يُلامِس كل قطعة من مُؤثِّثات الجسد المكان الذي تستعصي عليه المقاومة وقد ضَرب الداءُ بجذوره في قاعه..
«يدخل شاب قصير الشعر برداء أبيض ويراقب محاولاتها. يقول: أكيد صعب؟ يخرج ثم يعود بعد ثوان حاملا رضّاعة. يصب فيها الشاي، يسند رأسها، يمسك الرضّاعة قريبا من شفتيها، ويسأل: «هكذا أفضل، أليس كذلك؟» إنها تشرب». (كريستا فولف، هذا الجسد).
النفسُ الإنسانية كِتاب مفتوح تَقرأ فيه أنتَ كل ما أرادَتْ منك كريستا أن تَعرفَه.
بين سطوة اللحظة الراهنة وتفاصيل الأمس كما يختزنها الـ «فلاش باك FLASHBACK» تَضَعُ كريستا بين يديك كل الحقائق والتوضيحات..
بين برلين الجدار التاريخي وبرلين المستشفى الشاهدة على هذيان امرأة تُقاوم الغرق في أحضان أمواج اللاشعور، هنا تُريدُكَ كريستا أن تَقِفَ أنتَ..
الوَهَنُ، الضعف، الاستسلام، هذه مفردات حاضرةٌ معانيها بقوة ونحن نُبْصِرُ صورةَ البطلة المتهاوي جسدُها حَدّ الضمور. غير أن كل هذا لا يُغَيِّبُ قوةَ حضور تيمة التحدي..
«بذلت جهدي للتغلب على ضعفي، بل رسمت ابتسامة باهتة على وجهي، مع أني جزعت قليلاً فقط، جزعاً مازال هيناً، إلا أنه سيحتدّ خلال الساعتين التاليتين. لم أرو لك هذا أبدا، لكن الجزع ما كان يستحق آنذاك اسم «الخوف من الموت»، التعبير الذي طرحته الطبيبة ولو بصيغة السؤال» (كريستا فولف، هذا الجسد).
تيمة التحدي أعطتْها كريستا ما تستحقها وهي تَرسم ظلالَ إنسان قِمّة في العظمة (البطلة) بريشة الحكي الممهور بالغوص في النفس الغائرة في أدغال الذات..
«أتحدث عن كهوف تنشأ فيها المشاعر، لا أستطيع قول من أين أعرف. أدرك أني لا أستطيع إقناعك بكل ما عايشته. أصلا، المشاعر لا تنشأ، إنما يذوب عنها الجليد وكأنها كانت متجمدة» (كريستا فولف، هذا الجسد).
درس في الصمود والتحدي تُلَقِّنُه بطلةُ كريستا للإنسان الذي خانه قارِبُ الجسد في رحلة العبور إلى ما وراء مفترق الطرق الذي تَجثم عنده تطلعاته بعين الدهشة..
الشخصية المحورية في رواية «هذا الجسد» بقدر ما تفتح ذراعيها للحياة مُقَاوِمَةً المرض اللعين فهي لا تُضْمِر رغبتَها في التخلص من أَسْرِ الحياة. إنه اللعب بالورقتين في انتظار أن يُحَدِّدَ القارئ الخلاصَ من نقطة تموقعه الفكري.
كريستا فولف الكاتبة الذكية بقلمها تُحْكِمُ قبضتَها على انتباه القارئ من أول وهلة وهي تُخَدِّرُ القارئَ بجرعةِ عنوان مُراوِغ: «هذا الجسد».
كريستا تُوهِمُكَ بأنها ستَفضح غريزةَ الجسد، ثم تَأتي أول كلمة في الرواية لِتُعَمِّقَ الدلالةَ الوهمية التي يُوحي بها العنوان وهي تستهل بناءَها السردي بمفردة واحدة ثقيلة الإيحاء (جريحة) تفتح أكثر من نافذة على الجانب الحِسِّي المتمدد على الصفيح الساخن في النقطة الفاصلة بين الشعور واللاشعور.
تَتَمَرَّدُ الكاتبةُ على سلاح الغريزة و«سِيرْك» العَبَث الجنسي الذي تَركن إليه فئةٌ من الكاتبات الشَّرٍسَة منهن الواحدةُ في تهييج حصاد انتظارات القارئ قبل أن تتبلور بتكملة يبحث عنها (القارئ) في تَلافيف جسد كريستا الغائب كَنَصٍّ شَهْوَانِيّ.
كتابة من توقيع أنثى (كريستا فولف) عنوانُها «هذا الجسد» تستهلها بنَزْفٍ (جريحة) لاشك في أنها ستُفَجِّرُ بين ضفافِ انتظاراتك نهرَ الرَّغبة الشقية، لكن ليس هذا ما تُريده الكاتبةُ الحاصلة على جوائز كثيرة أهمها جائزة الكتاب الألماني على أعمالها الكاملة وجائزة غيورغ بوشنر بوصفها الجائزة الأدبية الأَهَمّ في ألمانيا.
إيحاءات عالَم الرغبات الدفينة طُعْم تَضَعُهُ كريستا في شباكها للحيلولة دون تَمَلُّص القارئ مع عُبوره لأول عتبة قبل أن تُغَيِّرَ سياقَ مَجْريات الأحداث، وتَنجح في الاحتفاظ بالقارئ يَقِظا يَقظةً تُوازي يقظةَ الشخصية المحورية مهما شابَها من هَذَيَان يُداني الْهَلْوَسَةَ.
جروح الجسد تَدفعنا كريستا إلى أن نَضَعَ اليدَ عليها، لكن بشكل مُغايِر يَكسر أُفُقَ انتظارِنا ويُلقي بتوقعاتنا القَبْلية جانباً بعد أن يعلو صوتٌ آخَر بعيدٌ كل البعد عن نِداء الأُنُوثة الصاخِبة..
«يبلل شفتيها وتجويف فمها بالسليلوز. هنا تستطيع السؤال: لماذا وضعي بهذا السوء. وخلاف التوقعات يأخذ رئيس الأطباء سؤالها على محمل الجدّ، يبدو أيضا أنه لم يباغت، بل ولا يبدو عليه الضَّيْقُ. يقول: لأن عندك نقصا في مواد مهمة. البوتاسيوم مثلا. يتبين من تحليل الدم انعدام البوتاسيوم عندك كلياً. نقص في المغنزيوم، والكالسيوم، والحديد، والفوسفور، والتوتياء. كل المواد المعدنية. علينا أولا أن نُعيد بناء جسمك تدريجيا» (كريستا فولف، هذا الجسد).
ما بين الموت والحياة لحظات تكفي لاسترجاع شريط الذاكرة استرجاعا مُشَتَّتا تتداخل فيه خيوط الماضي والحاضر، يتقطع فيه حَبْلُ اللسان بدليل المونولوغات المنفرطة حَبَّاتها من عِقْدِ الْمَنْطِق كما يَرتئيه قارئٌ حاضرُ البديهة، يَصغر حَجْمُ الكائنِ الْمُعَذَّب ويَعْظمُ الأَلَمُ..
لا تَستَهِنْ بالألم الوجودي وأنتَ تَتعلق بِذَيْلِ لحظةٍ مفصلية تُراجع فيها أفعالَك ومواقفك والعلاقات القائمة بينك وبين مَن رَبطَتْكَ بهم حِبال القَدَر عَلَّكَ تَقِف عند حدود هويتك ومعناك. كان هذا عينُه الشغلَ الشاغلَ للبطلة المريضة.
التمزق والتشظي لسان حالِ البِناء النفسي للشخصية الرئيسية في «هذا الجسد»، والبطلةُ الحقيقية للكتابة كريستا فولف تُكَرِّسُ مفهومَ البحث عن الانعتاق مستفيدة من أدوات النمط السيرذاتي:
«كان أوروبان يعيرنا أحيانا بأننا رومانسيون ميئوس منا، وأننا لا نتخلص من مثالية الكُتّاب، بدل أن نسعى لنكون موضوعيين». (كريستا فولف، هذا الجسد).
عَبْرَ «جسد» كريستا الطَّاعِن في الوجع لَكَ أن ترى العالَم الكبير من خرم إبرة، الجسد نفسه الذي يُقاوِم الإبادةَ حَدّ الاضْمِحْلال تدريجيا دون أن يَفقدَ كُنْهَ الإنسان العظيم الذي يُقيم فيه.
الأَلَمُ بَحْر، والجسَدُ قَارِب. لا أعِدُكَ بِوُصول آمِن، لكن ثِقْ بأنك سترى ما لا يَتَهَيَّأُ لَكَ عُبوره تخمينا.
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
01/04/2017
4457