+ A
A -
إذا كانت بعض قوى اليسار (من أحزاب ماركسية وقومية مغرقة في الإيديولوجيا) مازالت تعتبر لفظة «ليبرالية» شتيمة وتسخر من مفاهيم حقوق الإنسان والحريات وتعتبرها ترفاً بورجوازياً شكلياً رغم أنها- ويا للمفارقة- أحد المستفيدين من نضال المنظمات الحقوقية زمن الاستبداد، فإن المنتسبين شكلياً للتيار الليبرالي في المنطقة العربية أو من سماهم يوماً عن حق الدكتور عزمي بشارة «بالمتلبرلين» يمارسون السياسة على نقيض المنظومة الليبرالية تماماً، فبعضهم يؤيد الاستبداد ويبرر الانقلابات العسكرية ولا يجد حرجاً في أن يمد يده لكل طاغية من أجل تحقيق مصالح حزبية ضيقة، فهذا «المتلبرل المستجدّ الذي يجهل، أو يتجاهل ألا معنى لهذه الكنية إذا كان حاملها لا يدافع عن الحريات المدنية، والذي لا يعرف من اللبرالية وأصولِها ومبادئِها سوى التعصّب لنمط حياةٍ محدّد لا علاقةَ له بالحرية والتحرر، ولا يفقه منها سوى العداء للدين، وإن كان العداء ليس من مبادئها ولا من أصولها التاريخية أو النظرية؟» (عزمي بشارة).
وبمقارنة بين ليبراليي اليوم المزعومين ومفكري الإصلاح في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يصعقنا الفارق بين الطرفين. فرغم أن رواد الإصلاح لم يطلقوا على أنفسهم تسمية ليبراليين، غير أنهم كانوا الأكثر وعياً والأقرب ممارسةً وفكراً لروح الحرية الحقيقية رغم أن منهم مشايخ ومفكرين تعلموا تعليماً دينياً و«تقليدياً» كما يسميه البعض.. ألم يكن هاجس المصلح خير الدين التونسي هو الدعوة إلى إدخال «تنظيمات» تضمن الحريات العامة وتمنع الحكام من الاستبداد معتبرا أن الفساد المستشري في الدول الإسلامية، إنما هو نتيجة الاستبداد، لأن «إطلاق أيدي الملوك مجلبة للظلم على اختلاف أنواعه، كما هو واقع اليوم في بعض ممالك الإسلام» وهو ذات الذي ذهب إليه ابن أبي الضياف في كتابه «الإتحاف» من أن الممالك»لا تكون على نهج الاستقامة، إلا إذا كانت الدولة طالبة ومطلوبة»، و«الدولة المقيدة بقانون طالبة لما لها من الحقوق الملكية ومطلوبة بما عليها من الحقوق القانونية».. ألم يجعل الشيخ محمد الطاهر بن عاشور من الحرية أحد مقاصد الشريعة وقسمها إلى حرية فكرية وحرية عملية، مؤكداً في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية» أن الحرية مبنية على مقصد المساواة التي يلزم منها ويتفرع استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم، بل إنه مقصد أصلي من مقاصدها (أي الشريعة) وذلك هو المراد بالحرية».. ومن هنا يمكن القول إن الدعوة إلى احترام الحريات والدفاع عن منظومة الحقوق بالمصطلح المعاصر كان مما يشغل رواد الإصلاح في تونس (وفي المنطقة العربية عموماً) بعيداً عن الشعارات والتسويق لفكرة أن الليبرالية ليست سوى نمط محدد من الممارسات قد لا ينضبط للأخلاقيات العامة للمجتمع.
فمن حيث المبدأ ومتى احتكمنا بوضوح للنظرية «لا تصح ليبرالية من دون دفاع عن الحريات المدنية في وجه تقييد الدولة لها» (عزمي بشارة) كما لا يمكن توصيف مؤيدي الانقلابات وداعمي عنف الأنظمة الاستبدادية بأنهم ليبراليون حتى وإن تمسحوا بأعتاب اللقب وحاولوا أن يمنحوا أنفسهم شهادات التقدير والاعتراف من الأنظمة الرسمية.. لأن هذه الفكرة هي في أساسها ممارسة ومواقف أكثر، مما هي تصورات نظرية معزولة عن سياقاتها التاريخية وحينها تصبح التسمية «ليست دليلًا على فقر ثقافي وسياسي فقط، بل هي نوع من التواطؤ الموصوف أعلاه على الكذب».. كما يقول عزمي بشارة.
إن مشكلة من يطلقون على أنفسهم ليبراليين في تونس وفي المنطقة العربية تكمن في كونهم يمارسون الدجل الفكري ويكتفون بمجرد التلاعب اللفظي بعيداً عن اتخاذ المواقف الحقيقية التي تجعل صاحبها مستحقاً لصفة الحرية مدافعاً عنها ملتزماً بها.. فهم أقرب إلى العقلية الاستبدادية، وتحكمهم روح العداء للقيم الإسلامية إلى درجة الاصطفاف مع أعداء الشعوب وتبرير قمع الشعوب المطالبة بالحرية إذا رفعت شعارات متمسكة بالهوية. فالليبرالي العربي هو نسخة باهتة من الأصل الغربي الذي ينقل عنه ويفتقر إلى روح المبادرة أو القدرة على أن يبني بديلاً ثقافياً أو طرحاً سياسياً يتلاءم مع البيئة التي ينتمي إليها، إنها ليبرالية بطعم الاستبداد.
بقلم : سمير حمدي
copy short url   نسخ
28/03/2017
3891