+ A
A -
الفَقْدُ مُوجِع، والغياب يَأكل قلبَك، والشوق والأنين رسالتُك يا هذا المسكين الذي جَرَّعَه هوى مَن يهواها يتما مبكرا، وباغَتَه الزمنُ بضربة خنجر، فَلَيْت َكان لك قلبان لتعيش بواحد وتترك الآخَرَ يتلظى في نار من يهوى..
الهوى حارق، فما بالك إن كانت المعشوقة بجمال هذه التي ببهائها وراحِها وطِيبِها ووَردها وسحرها أَسرَتْ عيون العظماء فأقسموا أن يَحملَ الواحدُ منهم ذكراها في حقيبة سفره على امتداد رحلة التاريخ!
هي ليست أنثى عادية. هي الأرض العربية التي شَكَّلَتْ مطمعَ كل مُحارِب من أجل كحل عينيها ووَرد خدّيها ووضاءة شفتيها..
هي سوريا مشخَّصة في دمشق، جِيدِها، وقد آلَتْ إلى السقوط في أسوأ لحظة تاريخية عربية!
لأنه اليوم العالمي للشعر تَمُرُّ ذكراه ارتأيتُ أن أَقِفَ عند أكثر معشوقة يَليقُ بها أن يَتغزل الشعراء وأن يتغنوا بفُلِّها وياسمينها وسَعْتَرِها وطرابين نعناعها.. إنها محبوبتهم سوريا.
درس في الإخلاص للأرض يُعَلِّمُنا إياه نزار ابنُها البارّ الذي لم يَرَ في النساء جمالا يضاهي شَامَهُ، فكان حُبُّه، وكان تعلّقه، وكانت جراحه جراحا لا ضفاف لها:
«يا شام، إن جراحي لا ضفاف لها
فامسحي عن جبيني الحزن والتعبا» (نزار قباني، من مفكرة عاشق دمشقي).
الدليل هذا بالحجة والبرهان على أن شاعرَنا لم يكن شاعرَ المرأة فقط كما يتخيلها الجاهلُ. فالمرأة قضية، المرأة شغل يَشغلك، المرأة أُمّ ووطن..
ولا توجد حاليا قضية تَشغل العربي أكثر من بقائه كسيحا يُعْجِزُه السكوتُ وأرضه العربية تنحني انحناء مُدَوّيا وهي تتقلص تحت الأقدام بكاءً على جثث الأماكن التي كَتَبَ التاريخُ أسماءها بحبر المجد والعِزَّة، فإذا بها تصير إلى دخان ورماد يَحجبان ما تبقى من أطلال في زمن الحِداد.
أينك يا زمن الكأس والراح الذي تغزل فيه نزار بمعبودته الأولى دمشق؟!
أين أصداء الذاكرة القومية في زمن السكتة العربية؟!
يا للعار!
مات نزار! وهذا شعره حَيّ يُحاكمنا في زمن الانتصار لغير العروبة:
«دمشق، يا كنز أحلامي ومروحتي
أشكو العروبةَ أم أشكو لكِ العربا» (نزار قباني، من مفكرة عاشق دمشقي).
هل ساءلنا العروبةَ «أينكِ يا عروبة؟»!
حقا أينها هي؟!
«ما للعروبـةِ تَبدو مثلَ أرملةٍ؟
أليسَ في كتبِ التاريخِ أفراحُ؟» (نزار قباني، القصيدة الدمشقية).
العروبة تَضَامُن وتَحَابّ، فأينَ نحن مِن قِيم ومعاني التآزر والتكاتف والتعاضد والتعاطف والتآخي التي حَدَّثَنا عنها بعمقٍ زميلُنا العارِف عبدالله الغذامي في آخِر مقال كتبَه؟!
الحِسّ الإنساني يكاد يكون مُعدما. فكيف لا تَشتعل ذواتُنا ولا تحترق قلوبُنا التي تلتقط صرخةَ الأرض المنسية، الأرض التي صَرَّحَ نزار (ولَمَّحَ مرارا) بأنها ذَوَّبَتْهُ حُبّا وهياما أكثر مما قد تَفْعَل به أيّ أنثى تُلْهِبُ مجرى الدم في الجسد وتُسْكِرُ الروحَ:
«هذي دمشق وهذي الكأس والراحُ
إني أُحِبُّ وبعض الحُبّ ذَبَّاحُ» (نزار قباني، القصيدة الدمشقية)؟!
دمشق الوجهُ الآخَر للعُملة الواحدة سوريا، وسوريا قلبُ العرب الجريح.. سوريا ثكلى، والحزن قصيدةُ وجعٍ ترثي جسدَ المكان الذي يَحلف به تاريخُ الذاكرة العربية.
سوريا أَعْطَت الكثيرَ، فمِن أين لها بمَن يُعطيها شيئا يُذْكَر غير الخذلان والفِرار في غياب اتخاذ القَرار؟!
لماذا يتنكر لها من ينأون عنها بصمتهم الضارب في الذل والهوان؟!
هل من العدل أن يتجاوز الشعراء والكُتّاب مأزقَها الحضاري، والأصلُ أن يَكونَ لسانُهم حَدَّ السيف؟!
أَمِن الحكمة أن يَئِدَها مَن يَئِدُها ويهيل عليها ترابَ الجحود؟!
ماذا تبقى من سوريا ليُعانِقوه ويُعانقهم؟!
هكذا يُفشي نزار أسرار الحُبّ المباح والمتاح لكل قلبٍ يَرقص عشقا وكل عينٍ تَدمع شوقا:
«مآذن الشام تبكي إذ تُعانقني
وللمآذن كالأشجار أرواحُ» (نزار قباني، القصيدة الدمشقية).
حين تَعشقُ يا هذا فأنتَ لا تسأل «لماذا؟»، لكنك تَعشق حتى النخاع، تَعشق الإحساسَ والأنفاسَ، تعشق الشجرَ والحجرَ، تعشق الطُّوبَ والغُروب، تعشقُ الزهورَ والعُطورَ، تَعشقُ الدُّورَ والصخورَ، تعشق البابَ والترابَ..
لاحِظْ أنك تُقْدِمُ على هذا دون ضغوط تُفْرَضُ عليك، ببساطة لأنه قانون العشق الذي لا يُعلى عليه يُمْلِي عليك قواعده، وأنتَ تُنفِّذ بقوة العاطفة الجياشة التي تَجعلك تمدّ حبلا سريا يربطك بالمكان ويُقَوِّي أواصر الالتحام..
«حبيبتي أنتِ فاستلقي كأغنية
على ذراعي ولا تستوضحي السببا..
أنتِ النساء جميعا، ما مِن امرأة
أحبَبْتُ بعدكِ إلا خِلتُها كَذِبا..
أتيتُ من رحم الأحزان يا وطني
أقَبِّلُ الأرضَ والأبوابَ والشُّهُبا..
حُبِّي هنا، وحبيباتي وُلِدْنَ هنا
فمَن يُعيد ليَ العمرَ الذي ذَهَبا؟..
أنا قبيلةُ عُشَّاقٍ بكاملها
ومِن دموعي سَقيْتُ البحرَ والسُّحُبا..
فكُلّ صفصافةٍ حَوَّلتُها امرأةً
وكُلّ مِئذنةٍ رَصَّعْتُها ذَهبا» (نزار قباني، من مفكرة عاشق دمشقي).
هي هذه ثورة الوجدان، وهو هذا تَفَتُّح وَردِ الإحساس الذي يَحملك على بساط ضَوْعِه إلى قلاع الروح الهائمة في نشوة التجاوب العاطفي بين قلبين: قلب عاشقٍ مُتَيَّم يَكُونُه نزار، وقلب دمشق أيقونة الْمَدّ الحِسّي السوري..
اِرْحَميه يا جراحه، فلا ضفاف تَحدّ نزفَ الوَجدِ، وعَلِّمِينا كيف العشقُ يبلينا ويشقينا ويدمينا ويشفينا..
«كَم مُبْحِرٍ وهموم البرّ تَسكنه
وهاربٍ من قضاء الحُبِّ ما هَربا» (نزار قباني، من مفكرة عاشق دمشقي).
في ركن آخر من واحة الحنين يأتينا صوتُ مهدي يرتقُ ذاكرةَ الهوى لِمَنْ مِنْ قلبِه اسمُ دمشق هوى:
«فخراً دمشق تقاسمنا مراهقة
واليوم نقتسم الآلام والرهقا‏..
وسرتُ قصدك لا كالمشتهي بلدا
لكن كمن يتشهّى وجه من عشقا..
دمشق صبراً على البلوى فكم صهرت
سبائك الذهب الغالي فما احترقا‏‏» (محمد مهدي الجواهري، دمشق يا جبهة المجد).
حبال الوله تلتف حول عنق العاشق لتَصلبَ الروحَ على جدار الشوق، ولْتَشْرَبْ يا والِه من كأس التَّوْق..
دمشق أكثر أنثى تُعَذَّبُ وتُعَذِّبُ بِهَجْرِها، لكنها تستحق أن تُعْشَقَ، فعِشْقُها نضال، ووَصْلُها جَنَّة..
« زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا
وما لقلـبي– إذا أحببـتُ- جـرّاحُ..
هنا جذوري، هنا قلبي، هنا لغـتي
فكيفَ أُوضِحُ؟ هل في العشقِ إيضاحُ؟» (نزار قباني، القصيدة الدمشقية).
دمشق رسالة حُبّ.. ومَعْبَدُ الحُبّ للدمشقي سوريا..
الشعر يَمْتَصُّ ذاكرةَ الحنين إلى سوريا، وعِشقُ سوريا يَستنزف قلبَ المعذَّب بحرمانه من ترابها..
سوريا قصيدة، وكل قصيدة تُكْتَبُ عنها ولَها تتراءى لك غيمةً ماطرة مطر الشوق..
سوريا أغنيةُ بَوْحٍ حالمةٌ تُرَدِّدُها الشفاه الظمأى إلى ارتواء من عِطرِ قُبُلاتِ الحياة.. وكيف الطريق إليها وهي الحياة لِمَن خَبَرُوا الرحيلَ عنها؟!
سوريا قصيدةُ حنينٍ تَشَتَّتَتْ أبياتُها.. هي نهرُ خيرات متدفِّق ماؤها إلى غير مَنْ يَستحقه..
ضَيَّعَ عُمرَه وولاءه للأُمّ الوطنِ ابنُها العاق الذي يُسقِطُها من حساباتِ زمنِه، ومحظوظ كل الحَظّ مَن يَجودُ بالوَصل إلى آخرِ رشفة.
[فأيّ لون وأيّ طَعم يَكونُ لعيد الأُمّ وأُمُّهم سوريا مازالتْ تَدمع عيناها سَنة بعد سَنة ويَنزفُ جَسَدُها الذي يتدفق دَمُه دون توقف كما لو كان جسدَ مريضٍ بالهيموفيليا! رُحْماكَ يا ربّنا].

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
25/03/2017
7435