+ A
A -
مذ انهمكت في النقد الثقافي، وانغمست في دراسة الأنساق الثقافية وأنا أشعر أن حالة التذوق التقليدية للشعر قد تراجعت كثيرا، ولم أعد استسلم لجماليات الشعر، كما كنت من قبل، ومع كل طرب تطربه نفسي مع بيت شعري يبادرني الوازع النقدي لأكشف عيوب البيت النسقية، ومن السهل أن تكتشف أن بيتا يقول: أنا الطائر المحكي والآخر الصدى إنما هو بيت مغشوش ثقافيا، وإن أطرب شعريا، لأنه يعزز فكرة الذات الفحولية التي ترفع نفسها فوق الآخرين وتجعل الناس يأتون من بعدها، والمتنبي في شطره هذا يقول ما يقوله معاصره أبو فراس الهمداني: لنا الصدر دون العالمين أو القبر وهما معا حفيدان لسلف سبقهما في غرس هذه القيم الشعرية التي تتوسل بالجمالي، وتحفز حب الناس للشعر وهو حب يضمر من تحته حب التسلط والتفرد والتعالي، والشاعران هنا يعيدان صياغة بيت عمرو بن كلثوم ملأنا البر حتى ضاق منا، وماء البحر نملئه سفينا،مع أنه لم يملأ برا ولا بحرا، ولكن النفس البشرية تطرب لهذه المعاني فتتذوقها أولا، وتتمثلها ثانيا بإنتاج شبيه لها لفظيا ومن تم تبررها بأنها مجاز شعري يتم قبوله والترويج له، ولكن هذا المجاز الجمالي هو ما يكشف عن حس سلوكي في معنى التفوق الكاسح للغير، كما هو حس أي دكتاتور أو أي متسلط أبوي واجتماعي، أو أي طبقية من أي نوع، فردية كانت أو فئوية، وبذا فإن الجمالي يكشف هذه النوازع من جهة ويسوق لها من جهة ثانية ويمررها على القبول المضمر من جهة ثالثة، وقد كنت أنا أتذوق هذه الأشعار وتطرب لها نفسي، وأقول مثل غيري إنها مجاز بلاغي، وأن الشعراء أمراء الكلام، ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم، وأن الشعر ليس للتصديق ولا للتكذيب وإنما هو للتذوق الفني، وهذا هو المشروع الأكبر في مجالات النقد الأدبي ـ وكنت من أهل هذا النقد ـ غير أني تحولت للنقد الثقافي، وأعلنت موت النقد الأدبي عام 1995 وصرت آخذ نفسي في نقد الأنساق المختبئة من تحت عباءة الجمالي، وكل نقد لها هو نقد للظاهرة الثقافية بعامة، تلك الثقافة التي تنتج سي السيد السياسي والاجتماعي والتربوي والصحفي والطبقي بعامة.ولم أعد أمنح حصانة لشاعرنا الكبير المتنبي، نزار، أدونيس، وغيرهم لأنهم جمعا يتواطؤون على استدامة النسق الفحولي التسلطي، ويعيدون إنتاجه وتسويقه،عبر جمالياتهم الشعرية التي تعمي الحس النقدي وتمرر النسقيات من تحت هذه التعمية.

بقلم : عبدالله الغذامي
copy short url   نسخ
25/03/2017
4955