+ A
A -
تحدث الكاتب اللبناني المغترب «أمين معلوف» في كتابه بدايات عن جدته لأبيه «نظيرة» والتي ترملت وهي في التاسعة والعشرين من عمرها، وصممت على القيام بوظيفة زوجها الراحل كمديرة لمدرسة صغيرة، في قرية نائية، وبراتب ضئيل كي تتمكن من تربية ستة اطفال اكبرهم في الحادية عشرة واصغرهم أحد عشر شهرا، روى له والده بعض الذكريات عن أسلوب تربيتها.. أسلوب نفتقده هذه الايام «حين كنت اطلب شيئا من جدتك، وتظل منهمكة في عملها، كأنني لم أقل شيئا، ما كان يجب علي الاعتبار بأنها لم تسمعني، بل الادراك أنها ترفض طلبي، ولو سولت لي النفس تكرار السؤال، تلتفت نحوي مقطبة الجبين، فأندم على الفور ندما مريرا على إلحاحي، وكان اللجوء إلى حجة واهية ممنوعا منعا باتا، اتفقت في أحد الايام مع أقارب من سني على القيام بنزهة في الجبل سيرا على الاقدام، وبدون مرافقة راشد، وظننت ان من الحذاقة القول إن أهل اصدقائي لم يبدوا أية ممانعة، حينها انتفضت الجدة واكفهر وجهها وقالت: «في هذا البيت. نقرر حسب ما يمليه علينا المنطق السليم لا حسب ما يفعله الآخرون أو لا يفعلون، إذهب وقل لرفاقك إنك لم تحصل على الإذن بمرافقتهم! ولا تلجأ أبدا إلى هذه الحجة معي! كان أحد مبادئ تلك الجدة أن السلطة لا يجب أن تمارس في الثرثرة، بل في الصمت، أو على الأقل بأقل قدر ممكن من الكلمات، وكانت تملك كلمة سحرية يكفي أن تتلفظ بها حتى يجمد الأولاد في مكانهم وعلى الفور «سمَاع» أي أصغي إلي» وقد شرحت لحفيدها الاديب فيما بعد باعتزاز سبب لجوئها لهذه الكلمة: «كنا نعيش، كما تعلم، في قرية تكثر فيها الجروف، والآبار غير المسدودة، وأوكار الافاعي، وكنت مسؤولة عن زمرة من الصبية المتهورين، أولادي، وكذلك التلاميذ، ولو صرخت بأحدهم: «كف عن ذلك» وظل يعدو لثانية إضافية، قد يدق عنقه، فعودتهم جميعا إطاعة أوامري حتى قبل أن يلتقطوا أنفاسهم. كان يكفي أن أصرخ: «سماع» ليجمدوا مكانهم، وكم مرة أنقذت طفلا من الموت بهذه الكلمة فقط» ومرة أخرى اكتشف الاولاد شجرة لوز مثقلة بالثمار الخضراء المخملية الملمس، وشرح لهم أحد الاقارب أن أصحابها هاجروا إلى أميركا، وبالتالي، لا بأس من أكل ثمارها بدون تأنيب ضمير، فاقتنع أولاد نظيرة بالحجة، وملأوا جيوبهم باللوز، غير أنهم لم يأكلوا لوزة واحدة قبل استشارة والدتهم، أصغت إلى حجتهم بدون التفوه بكلمة واحدة، ولكنها كانت متجهمة قليلا. ثم سألت: هل هذه الشجرة ملكنا؟ أجابوها: أصحابها في أميركا. تعاظم عبوسها: لم أسألكم عن أصحابها، بل سألت فقط إذا كانت هذه الشجرة لنا! ردوا بالنفي، عندها أرغمتهم على إفراغ جيوبهم في سلة المهملات...وأطاعوها دون تردد.. بل لم تسول لهم أنفسهم التسلل والتقاط حبة واحدة لتذوق طعم اللوز.

بقلم : وداد الكواري
copy short url   نسخ
21/03/2017
3213