+ A
A -
لا يوجد تعذيب أكثر وطأة وأشدّ إيلاما من مَشْهَد صرخة تَضْربُ أعماقَك وتَصفعُ وترَكلُ بينما لا تَجِدُ الفَمَ الذي تَخْرج منه عَلَّ صاحبَها يتحرَّرُ من قَيْدِ سَجَّانِه..

صَدِّقوا أن ما مِن سَجَّان أكثر قسوة من الزمان الذي يَسرق منك منديلَ الصبر الذي تلملم به دموعك في أَوْج الحَرّ، حَرّ غليان الواقع المرّ..
الزمان يمحو من كتاب حياتك فرحتَك ويُتْلِف رَوْنَقَ الحروف، ثم يُسَلِّط عليك أسوأ الظروف لتمضي عاريا من رداء الإنسانية..
لن تمتشق نيةَ البوح بأشجانك، فأنت تَبحث عن شفتيك لِتُسعِفاك، لكن يدَ الزمن البتّارة جرَّدتْكَ من مُحَرِّكِ الكلام ورَوَّضَتْكَ على الاستسلام..
في دجنة ليل الحيرة الذي يتداعى فيه جِسْرُ أَسَاكَ على نهر الصمت يَأتيكَ صوتُ الملائكة الحنون لِيُـضيء لكَ شمعةً فتتحسس الجرحَ وتَلعقُ الملحَ، ملح الوجع:
»البشرية لفظ لا يسكنه معنى
ولمن تشكو؟ لا أحد ينصت أو يعنى
والناس قناع مصطنع اللون كذوب
خلف وداعته اختبأ الحقد المشبوب» (النائمة في الشارع، شعر، نازك الملائكة).
الشاعرة الرقيقة نازك الملائكة تقف في ركن من شارع الحياة، تعاين غَضْبَةَ الزمن الملعون وتحاول بطيبوبتها أن تُرَطِّبَ قلبَ الأيام القاسي، القاسي جدا على الكبار، فما بالك بما يَفعله بالصغار!
مِن هؤلاء الصغار الْتَقَطَ إحساسُ نازك صورةً لطفلة نائمة على سرير الشوك، طفلة يَعبث بها الدهرُ لِيَقذفَ بها إلى حيث لا مَفَرّ ولا مَنْجَى، فَم الأيام التي تتضور جوعا إلى قطعةِ لحم تُعادِلُ جسمَ صَبِية..
فَم الأيام كالرغبة المجنونة لا يَشبع، فَم الأيام لا يَزهد في شيء منك، فَم الأيام يَقضم اللحمَ ويَمضغ العظمَ ويَمتصُّ الدمَ..
الزمن مصّاص دماء، والبشر معظمهم خادم أمين للزمن يُسَهِّلون عليه أَمْرَ أن يَنقادَ له مَن تَبَرَّأَ منهم ذاك الوطنُ الذي يسمى الحضن، أو ضَلُّوا الطريقَ إلى الحضن، الحضن الدافئ، الوسادة الناعمة التي تمتدّ أصابعها لِتُداعب خصلاتِ الشَّعر وتَمسح هَدْبَ العين وتتذوق صَحنَ الخَدّ..:
«كان البرق يمر ويَكشف جسم صبية
في رقة هيكلها وبراءة عينيها
رقدَتْ فوق رخام الأرصفة الثلجية» (النائمة في الشارع، شعر، نازك الملائكة).
الطفولة طائر جميل، لا يكتفي صُنَّاعُ مَوتِه بقصقصة جناحيه، إنما يتمادون في تجريده من ريشه كأنهم ينتقمون منه تشويها لجماله وطمسا لبراءته..
أإلى هذه الدرجة يَتَمَدَّدُ الحِقدُ؟
أإلى هذه الدرجة تَتَغَوَّلُ الأنانيةُ في ساحات قلوبهم؟
أإلى هذا الحَدّ يموت إحساسُهم بالآخَرين؟
كأنهم يُجَسِّدونَ حرفيا معنى قوله تعالى: «فَإِنَّها لاَ تَعْمَى الأَبْصارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ» (سورة الحج، من الآية: 46).
نازك الوالهة الإحساس من فَرط ما تأملَتْ من موتٍ يَمتدُّ من زمن الكوليرا إلى زمن توسد الأرصفة ها هي تَرفَعُ صَوْتَها عَسَاه يَصِلُ إلى من يهمّهم الأمر من حُمَاة شجرة الإنسانية..
شجرة الإنسانية كما تَرسمها لنا ريشة الحرف بحبر نازك تساقطَتْ منها ثمارُ المحبة.. فريح الأنانية حين تَضرب حقلا لا تترك فيه سوى هياكل لأشجار كانَتْ..
الوجع يَصرخ ويَركض مجنونا، ويتخذ في نص نازك ثلاثة تجليات:
أولا، توجع جَسَدِ الزمنِ والمكان:
فالنص لم يَنْسَ أن يُحددَ المكانَ والزمنَ: الوقتُ ليل بدليل البرق الذي يَكشف ضوؤه المستورَ، والفصل شتاء بشهادة البرد والريح والإعصار وليلة الأمطار.. أما المكان، فهو شارع مهجور.. هكذا تتوجع الدُّورُ والأرصفةُ المتصلبة كالصخور وأعمدةُ النور وباقي مُؤَثِّثَات الشارع..
«الشارع مهجور تعول فيه الريح
وسكون رطب يصرخ فيه الإعصار
«كان البرق يمر ويكشف جسم صبية
والحارس يعبر جهما مرتعد الخطوات
يكشفه البرق وتحجب هيكله الظلمات
تنتفض الظلمة فيه ويرتعش الرعد» (النائمة في الشارع، شعر، نازك الملائكة).
ثانيا، تَوجع كُتلة اللحم النائمة على سرير العراء:
فهناك شخصية واحدة يتمحور حولها النص الشعري، الطفلة النائمة في الشارع. لقد أَضْفَتْ الشاعرةُ على الصغيرة أوصافا دقيقة جدا تستنطق البشريةَ وتستحضر تاريخا من الصمت الرهيب، وتُبين إلى أيّ مدى انْهَارَ الحِسُّ الإنساني ورَخصَتْ المشاعر (بدون غطاء، تفترش الأرض، متعَبة، مرتعشة..):
«ضَمّت كفّيها في جزع في إعياء
وتوسدت الأرض الرطبة دون غطاء
والحمى تلهب هيكلها، ويد السهد
ظمأى ظمأى للنوم ولكن لا نوما
وتظلّ الطفلة راعشة حتى الفجر
حتى يخبو الإعصار ولا أحد يدري
أيام طفولتها مَرَّت في الأحزان
تشريد، جوع، أعوام من الحرمان» (النائمة في الشارع، شعر، نازك الملائكة).
ثالثا، توجع قلب الشاعرة:
تتوجع السطور الشعرية التي تبثها الشاعرةُ حزنَ الليل والمكانِ (المغمورِ) بُكاءً على روحِ صبيةٍ تنتفض كالعصفور المذبوح..:
«أَلَمٌ يبقى يَنهش، لا يَرحم مخلبُه
السهد يضاعفه والحمى تُلهبه» (النائمة في الشارع، شعر، نازك الملائكة).
كيف يمكن للمرهَفة الحِس نازك أن تستوعب كل هذا الألم الذي تلتقطه عيناها الداميتان وقد جَرحهما إطارُ الصورة الفظيعة التي لا تليق بِرِقَّةِ أنثى تَكُونُها المرسِلة (الطفلة) والمرسَل إليها (الشاعرة)؟!
«هذا الظلم المتوحش باسم المدنية
باسم الإحساس، فوا خجل الإنسانية» (النائمة في الشارع، شعر، نازك الملائكة).
هكذا تنظر نازك إلى مَن اتخذوا مِن الشارع ملجأ بعد أن لفظهم البيتُ الكبير الذي يسمى القلب، وبهذه الرؤية السديمية (بل السوداوية) تزن الشاعرةُ الأمورَ في ميزان الرحمة باعتبارها نصا غائبا..
الرحمة والحكمة لا أثر لهما في ظِل جشع الإنسان وحرصه الشديد على إرضاء تَوْقِ نفسه الأمّارة بالسوء إلى النيل من كرامةِ بني طينته وما تبقى من قميص ثمين يَصلح لأن يكون أي شيء سوى الإنسانية.. إنه ذلك الجشع القاتل لِمُضْغَةٍ كانت تُسمى القلب الذي يجري فيه نهر الحُبّ.
الجرح كبير وغائر.. والإحساس بالمجروح غائب في ظل غليان الواقع المادي الذي يستدرج السيقان تباعا إلى مستنقَعِه..
من أين للمجروح بالرحمة:
«والرحمة تبقى لفظا يُقرأ في القاموس» (النائمة في الشارع، شعر، نازك الملائكة)؟!
الإهانة التي باتت تُرْهِق الكائنَ المعذَّبَ الذي يُسمى الإنسان لا تخطر على بالِ مَن سلسلتهم القيودُ الثقال، قيود حُبّ النفس التي تُعميك عن رؤية سواها..
عاهات تُشَوِّهُ جسمَ الحياة عند فئة تتنفس من خرم إبرة: الفوضى الطبقية، اليُتم، العراء، اللامبالاة.. وتأتي الطبيعة لتزيد المشهدَ قتامة بما تُمليه عليك من قسوة تَدفعك إلى السقوط بعد سقوطِ آخِرِ سببٍ لبقائك، فإذا بك ترفض المضي في انتظار قطار الوقت الذي لن يأتي ولا يريدك أنت أيضا أن تأتي..
وَاهِم مَن يحاول أن يُزَيِّنَ مرآةَ أيامك ببريق كاذب ويَهمس إليك بأن الحياةَ وردية، فتلك كذبة دَفَنّاها مرارا، فكلما حفرنا لها حفرة وهِلْنَا عليها الترابَ يأتي أَحَدُهم ليقول إنه شاهَدَها (كذبة الحياة الوردية) تَركض عارية من زقاق إلى زقاق على امتداد شارع الدنيا الضيق.
الحياة دموع.. دموع وأنّات هي الحياة.. الحياة بحرُ وَجعٍ مالحٌ.. هكذا يراها المتعَبون، بعيونهم الحمراء التي تُربي العَبَرات وألسنتهم التي يَبسَتْ فما عادت تتلذذ بتذوق الطيبات..
الحياة كابوس مرعب تَفرك عينيك مرارا في الصبيحة الواحدة لتتأكد أنك فارَقْتَه فإذا به ما فارَقَك..
الموجوعون أبطال الحياة في الكواليس لا في العرض.. وصوت الملائكة الحنون يقول شيئا واحدا في رسالة شعرية هادفة إلى انتشالهم من بئر الظلام السحيقة: «أعيدونا إلى دائرة الضوء.. أعيدوا إلينا الحياة.. أعطونا الطفولة».
بكل الحُبّ الكائن والممكِن نَضمُّ أصواتنا إلى صوت الملائكة ونَقْرَعُ بابَ الإنسانية.
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
18/03/2017
6655