+ A
A -
ارتسمت على وجه «نور الدايم سالمان» علامات الأسى وهو يحتسي قهوته الأميركية صباح يوم سبت بحجرة مكتبه في بيته الفاخر في ضاحية بيثاسدا بولاية ميريلاند الأميركية. دار به شريط الحياة فأعاده أكثر من نصف قرن إلى الوراء. لقد جاء قبيل نهاية خمسينيات القرن الماضي مبتعثاً لدراسة الفيزياء في إحدى جامعات العاصمة واشنطن. وبعد خمس سنوات عاد فرحاً بالدكتوراه إلى وطنه.
لكن وطنه أعاده بعد خمسة أشهر محزوناً من حيث أتى. وبسرعة فتحت الغربة له أبوابها. فقد كان يملك طاقة عمل خارقة وجد لها بيئة العمل اللائقة. ولهذا ترقى تباعاً ليصبح مديراً لواحد من مشروعات البحوث الكبرى في وكالة الفضاء الأميركية ناسا.
كان «نور الدايم» يستقبل عطلة نهاية الأسبوع بفرحة طفل يتوق إلى الراحة بعد أسبوع شاق. ولم يتخل لعقدين عن تخصيص بعض الوقت من صباح كل سبت لمطالعة الصحف العربية. فهو لم يسمح للغربة بأن تقتلعه من جذوره. كان يعيش بتواد وألفة بين ثقافتين. قلبه معلق بمدن الملح التي خلفها وراءه وعقله متيم بمدن الملاح التي استوطن فيها.
وصباح هذا السبت وقعت عيناه على خبر تناقلته الصحف العربية مثل باقي صحف العالم عن اكتشاف وكالة الفضاء الأميركية التي يعمل بها سبعة كواكب جديدة شبيهة بالأرض تبعد عنها 40 سنة ضوئية يرجح الخبر أنها قابلة للحياة ويتوفر عليها الماء، ما اعتُبر فتحاً غير مسبوق للإنسان الذي بات يضيق بالأرض ويبحث عن حاضنة كونية أخرى تؤويه. لم يجد «نور الدايم» فرقاً في محتوى الخبر بين ما قرأه بالعربية وما طالعه بالإنجليزية على صدر صحيفة الواشنطن بوست الشهيرة. ولا غرابة في ذلك لأن الصحف العربية تترجم الخبر ولا تصنعه. لكنه وجد في صحف عربية شيئاً آخر لفت نظره. إنه الرأي الذي يُقدم للقارئ أحياناً على أنه خبر وأحياناً أخرى على أنه الحقيقة نفسها. وهذا أشد ما أزعجه. قرأ تعليقاً لخبير عربي يعمل في مرصد للزلازل قطع فيه بخفة لم يتحملها «نور الدايم» بأن الكشف الجديد ليس إلا وهماً ودغدغةً لنزوات الفضول لدى البشر. وفي تقدير هذا الخبير فإن الماء وكافة فرص الحياة مما توفرت على سطح تلك الكواكب فسوف تبقى غير مأهولة بلا أية قيمة لأن المسافة بينها وبين الأرض تصل إلى 235 تريليون ميل ما يجعل قطعها مستحيلاً خلال دورة حياة أي إنسان. ولم يفت هذا الخبير أن يشكك في الخبر من الأصل، مشيراً إلى أنه مصطنع جرى نشره في إطار معارك التخويف النفسي بين القوى الكبرى باستعمال كل ما لديها من أدوات بما في ذلك الأدوات العلمية.
وضع «نور الدايم» الجريدة التي كانت في يده جانباً وبدأت أصابعه تحرك شاشة هاتفه النقال ليتابع مشاركات أصدقائه على موقع فيسبوك الذي يربطه ببعض أحبائه في مدن الملح. قرأ تعليقاتهم حول مختلف الأحداث ومن بينها ما كتبه بعضهم حول ذلك الكشف الجديد. وجد منهم من عاب في الكفار الملاعين الذين ما زالوا لا يؤمنون بالخالق برغم كل ما توصلوا إليه. وبعض آخر تساءل ما لنا نحن العرب ومال تلك الأخبار؟ فنحن قماشة وهم قماشة أخرى تماماً. وصديق ثالث كتب عن الاستعماريين التدميريين الذين بدؤوا يستعدون لترك الأرض بعد أن خربوها.
لقد كان «نور الدايم» برغم تقاعده أحد المشاركين في البحوث التي قادت إلى هذا الكشف المثير. فلم تكن ناسا لتستغني عن خبير مثله. ولو كان استسلم قبل سنين لروح ساكني مدن الملح لما كان قد تمتع بعزيمة صلبة دفعته إلى الإقبال على البحث عن مستقبل حاول أن يصنعه مع أبناء جيله ليهديه إلى أبناء أجيال لم تولد بعد لكنها قد تحصده بعد مئات السنين. كان يعرف معنى العلم ويعيشه. لقد وصل إلى أميركا وهي تخصص 0.1 % فقط من ناتجها المحلي الإجمالي لبحوث الفضاء ثم رفعته بحلول 1966 إلى 4.4 %. ومع أن تلك النسبة عادت لتنخفض لتصل مؤخراً إلى 0.23 % إلا أنها تبقى بحسب بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD ميزانية كبيرة تبلغ حوالي 40 بليون دولار سنوياً.
أخذ نور الدايم يقرأ ويقارن بين ما يشغل مدن الملح وما تشتغل به مدن الملاح، كانت معنوياته تتراجع فكف عن القراءة وأمسك بالقلم، كتب على قصاصة كانت على المكتب «من ليست له مكانة على الأرض ليس له مكان في السماء» ثم خرج يتريض عله يزيل بعضاً من حسرته على العبث الذي ما زال يجري في مدن الملح.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
13/03/2017
4966