+ A
A -
الله يعين الزوجة التي ابتليت بكاتبٍ مهمومٍ بقضايا وطنه..

هو معها الحاضر الغائب، هي تفكر في نزهةٍ وفسحة، وهو شاردٌ يبحث عن فكرة، ينسج من خيوطها قصةً، أو يداعب دلعها ونفورها، بجملٍ وتعابير ملتويةٍ، حتى يكون وقعها خفيفاً على بعض خلق الله، ممن تولَّوْا، قصراً، وظلماً، ورياءً مقادير الأمور في بلده، وجعلوا أنفسهم بمثابة ظل الله على أرضه: يشرّعون، ويجرِّمون، ويمنحون صكوك الغفران لمن يشاؤون، ويصبّون اللعنات والبثور، وعظائم الأمور على من يجرؤ على القول لهم، وفي أم أعينهم: أنتم عور..

هو مهمومٌ بهذا وذاك، وعيشه وسلوكه دائماً مع أفكاره، وما أكثر شرود هذه الأفكار! تأتيه أحياناً في هجعة الليل، وفي سكونه، وهدوئه، وتتزاحم في مخيِّلته السياقات والتراكيب، والجمل الشيطانية العابثة التي قد تشكّل قوام الفكرة، وتطرزها على أحدث الموضات، وأشيكها، لكن غَلَبة النعاس تشرد به بعيداً إلى كوابيس الأحلام، التي تهاجمه بعد «عشوةٍ» أُجبر عليها، ويفيق في الصباح وقد تبخّر كل شيءٍ، وكأنه حبٌّ في زمن المراهقة، استفاق بعده ليدرك الحقيقة: فلا حبيبة بقِيَت، ولا أحلام تمكّنت، كله قبض الريح..

والفكرة دائماً: عبثٌ متّصلٌ، لأنها شَرودٌ، كغانيةٍ تعرف مكامن القتل في عشاقها، فتكثر الدلال.. والكاتب المسكين مبتلىً بعشق هذه الغانية الشرود، يغازلها تارةً، فترخي حبال الوصل، وحينما يمسك بأطرافها، تشرد وتبتعد، فيظلُّ لاهثاً وراءها، ويمنّي النفسَ بأن يكون سيدَها، وما أشقَّ ذلك وأصعبه!

الكتابة يا سادتي انتحارٌ بطيءٌ، ولكنه محبَّبٌ لمن ابتُلي به، لا شفاءَ له منه.. حينما مارستُها محترفاً، كنت أحرر عموداً يومياً، ولم يكن ذلك يشقُّ عليّ، لأنه كان بوْحاً، وتواصلاً، وسرداً لأفكارٍ أعايشها، ولما رحت أسطّر كتاباتي مرتيْن في الأسبوع، بدأت أشعر بمزيدٍ من الجهد، لأنه يتوجّب عليّ أن أكثِّف رؤيتي، وأما الآن، أنا أطل على القارئ مرةً في الأسبوع، فيا لَلوعتي وعذابي! عليّ أن أكون صائداً للأفكار الحية التي تضيف جديداً على مدى سبعة أيامٍ، وهذا يضعني في مضمار الجري للحاق بالأفكار، وبالتالي: الابتعاد عن حلاوة الأمور البسيطة، لأنني- وبصدق- أعترف بفشلي في مغازلة كل ما هو شَرودٍ.. من الأفكار طبعاً.

ما زلت أغني:

يا عطرَها الفوّاحَ من نحرها

أفيكَ سرٌّ، أم لمى ثغرها؟

أم أن من أردانها ناشرٌ

يفوح، إذ تختال في أمرها؟



بقلم : حسن شكري فلفل

copy short url   نسخ
29/04/2016
1096