+ A
A -
- لا تَبْحَثْ عن دَوْرِك.. فقد انتهت اللعبة قبل أن تبدأ.
ما جدوى أن يكون بيننا شيء، وأن نبحث لهذا الشيء عن معنى، إذا كانت كل المؤشرات تتفق على غياب المعنى في زمن قد يعلو فيه أيُّ شيءٍ لكن يَسقط فيه المعنى.
أنا وأنتَ والزمن والمكان نُساوي صِفرا.. إليكَ الواقعة والدرس.
زمن يتعثر فيه الحضور. بهذا التوصيف يمكن أن نَرسم ملامح الكون الذي نُطِلُّ عليه من نافذة اللامعقول في زمن تَكْفر به العقول.
الكون الذي نقف عنده تتنافر شخصياتُه بقدر ما تتنافر لحظاته العصية عن التقاطها إلا في ثورة السكون وفورة الجمود. لِنَكُنْ على أُهْبَةٍ لنرتمي في حضن العبث في الوقت الذي يَصِحُّ فيه كُلُّ شيء إلا الصحيح ويبطل فيه كل شيء إلا الباطل..
كَوْن مُغْلَق ورهيب ومُغَلَّف (ومَحْشُوّ) باللامبالاة يسمى الحياة خارج تشفير السلم. الدرجة الصفر للحياة تَرصدها شخصيات تَمَّ انتشالها من واقع بوهيمي يُصَوِّرُ له مَنْطِقُه أنه يتحرك لكنه لا يتحرك.
لِنَقُلْ إنه الزمن الميت الذي يجعل من الصمت لُغَةً ومن التثاؤب فِعلا ومن المنطق وَجَعَ رأسٍ ومَدْخَلا إلى كل حقيقة يَسْقُطُ عنها ثوبُ الحكمة وتَعتريها الفوضى..
هذا هو الكون البيكيتي نسبةً إلى مؤسس مسرح اللامعقول صامويل بيكيتSAMUEL BECKETT الذي حاول أن يقف عند مأزق حياة الإنسان المعاصر مُجَسِّدا فلسفةَ موت الزمن.
قبل أن تبدأ أنتَ بطرح الأسئلة تباعا يَرْسم لكَ صامويل نقطةً ويعود إلى السطر دون أن يَسْتَهِلَّ شيئا يَحتاجُ إلى تَكْمِلَةٍ. فالكاتبُ يَسدل الستارةَ قبل أن يَعرضَ الفُرْجَةَ مُصِرّا على أن يُقْنِعَكَ بمنطقه العبثي الذي يقول إن المسألةَ نهاية لعبة لا أكثر:
»كلوف: (نظرة ثابتة، صوت دون نغمة)- انتهت، لقد انتهت، ربما على وشك النهاية (صمت)..» (صامويل بيكيت، نهاية اللعبة).
لا نتحدث عن نهاية لعبة عابرة مسلية كما قد يُصَوِّرُ لكَ عقلُك، فالأمر أكبر من أن يكون مجرد لَعِب، والنهاية البيكيتية (نسبة إلى بيكيت) تَسبق البدايةَ بوقت، والمسافة من البداية إلى النهاية لا تَخْرُجُ عن حدود الوقت الميت.
نتحدث عن مسرحية «نهاية اللعبة (FIN DE PARTIE)» (ترجمة: بول شاوول) للكاتب نفسه (صامويل بيكيت) الذي عَبَرَ الحدودَ بمسرحيته الأخرى «في انتظار غودو (EN ATTENDANT GODOT)»، وكلتاهما (المسرحيتان) لا تُقَصِّر في تجسيد العبث واللامعقول، على أن كلا منهما تُوجه أصابع الاتهام إلى الزمن وقد تحول إلى جُثَّة.
أربع شخصيات ممزَّقة تَجهل أنتَ كليا الحكمة من تواصلها في ظل موقفٍ حوارُه عقيم إذ تتحطم فيه جسور التواصل الذي لا يَنْتَظِمُ خطاباتِه رابط:
ناج: الأب، كسيح مُقْبَر في صندوق قمامة.
نيل: الأُمّ، كسيحة، مُقْبَرَة في صندوق قمامة.
هام: الإبن، أعمى يُلازِم كرسيا بعجلات.
كلوف: القائم بأمر الابن وسِواه، متمكن من الحركة، غير قادر على الجلوس.
إنها شخصيات تتآكل تحت وطأة التَّشَظِّي وتُسافر في الغياب، والقاسم المشترَك الوحيد بينها هو الإعاقة التي يحاول من خلالها صامويل أن يَرسم الوجه الْمُشَوَّه للحياة في ظل العصيان الذي أعلنه الزمنُ حالفا ألا يتحركَ.
الهذيان أرقى صور حضور اللغة، والحوار لا يقول شيئا، والضحكة بلهاء لا تَقُودك إلى معنى، والحركة مجانية لا يُوجهها دافع:
«ناج: أريد عصيدتي!
هام: أعطه قطعة بسكوت. (كلوف يخرج). أيها النسل الملعون! كيف حال ساقيك المبتورتين؟
ناج: دَع ساقيّ المبتورتين وشأنهما. (يدخل كلوف، في يده قطعة بسكوت).
كلوف: عُدتُ، بقطعة البسكوت. (يُعطي قطعة البسكوت إلى ناج الذي يأخذها، يتفحَّصها، ويشمّها).
ناج: (متشكيا) ما هذه؟
كلوف: قطعة بسكوت عادية.
ناج: قاسية! لا أستطيع!
هام: اسجنه!
(كلوف يُدْخِل ناج إلى صندوق القمامة، يُحْكِم الغطاء).
كلوف: (عائدا إلى مكانه قرب الفوتيل) لو عرفت الشيخوخة!
هام: اجلِسْ عليه.
كلوف: لا أستطيع الجلوس.
هام: صحيح! وأنا لا أستطيع الوقوف.
كلوف: هذه هي الحال» (صامويل بيكيت، مسرحية نهاية اللعبة).
العزف على أوتار اللامعقول والرقص على حبال العبث كلاهما يَخدم رُؤيةَ الكاتب التي تُفَلْسِفُ المعنى الغائب كنص لم تَتركْ له الهوامش ما يَقوله.
صامويل يبحث عن العِلَّة في قلب الوجود الذي يتخبط فيه الإنسان، فبقدر ما تكبر عيوبُه يتلاشى حضورُه وتتفاقم مشاكله.
تصوير دقيق للنوع البشري يقدمه صامويل على شكل نُسَخ ممسوخة للإنسان، تلك النسخ التي تتفق من حيث المظهر في الإعاقة ومن حيث الجوهر في اللامعنى..
العزلة، اللامبالاة، اللامعقول، العبث، العلاقة الميكانيكية، الحركة الآلية، الصمت الجاثم على الكلام.. هذه علامات تؤثث عالَم العجز في الفضاء البيكيتي.
تيمة العجز حاضرة بقوة، أبسط تجلياتها تعذر الجلوس على كلوف مقابل تعذر الوقوف على الثلاثي المكوَّن من الإبن وأبويه..
غير أن عمى العيون يأتي لِيُضاعِفَ بشاعةَ الْمَشْهَد وضِدّ إرادة الكُلّ يتواطأ مع القبر المجازي (صندوق القمامة) الذي يكتم أنفاس العجوزين ناج ونيل.
السخط والسخرية اللذان يسرقان الضوءَ يرسمان للقذارة سقفا، وهكذا يتوسل صامويل بصندوق القمامة الذي يُلقى فيه العجوزان. ألا نرى كيف أن الكتابة البيكيتية تَقِفُ عند مزبلة الزمن التي تُدْفَن فيها القِيَم والْمُثُل التي تُصبح ميتة منذ اللحظة التي يموت فيها الزمن؟!
الانفتاح على العالَم الخارجي موقف تتهرب منه الشخصيات التي تَنهشها عزلة قاتلة تجعلها لا تبحث عن رؤية الماوراء إلا من عين إبرة لا تخرج عن النافذة التي اجتهد كلوف في النظر من خلالها إلى الخارج الغائب عن عيون الإبن هام وأبويه:
»يتوجه كلوف ويقف تحت النافذة إلى اليسار. مشيته متصلبة ومترنحة معا. يُحَدِّقُ في النافذة إلى اليسار، رأسه مرفوعة، يحدق في النافذة إلى اليمين. يتوجه ويقف تحت النافذة إلى اليسار، ورأسه مرفوعة. يدير رأسه ويحدق في النافذة إلى اليسار. يخرج. لا يلبث أن يعود من توه حاملا سُلّما صغيرا.. يحدق عبر النافذة. ضحكة قصيرة. ينزل، يخطو خطوة واحدة نحو النافذة إلى اليمين، يعود ويأخذ السلم، ويضعه تحت النافذة إلى اليمين، يتسلقه، يحدق عبر النافذة. ضحكة قصيرة..» (صامويل بيكيت، نهاية اللعبة).
فهل يكون العالَم الخارجي مُضحِكا إلى الدرجة التي تجعل كلوف يَسخر منه؟!
أم هو حبل العبث ممدود دون أن تُفصِح الشخصية (كلوف) أو صانِعها (صامويل) عن الحكمة من استعذاب الضحك في موقف لا يدعو إلى الضحك؟!
أم هو تصوير بليغ للمأزق الوجودي الذي سَجن فيه الإنسان (أو الشخصية) نَفْسَه حين أبتْ عربةُ الزمن أن تتحرك إلى الأمام كأنها تحتاج إلى أذرع تَدفعها دفعا؟!
صامويل يُعَبِّرُ عن رفضه للزمن، ويُمَسْرِحُ معنى اللامعنى وجودا وتحققا مع وقف التنفيذ.
هكذا هي الحياة ذروة العبث.
لا تَبْحَثْ عن دَوْرِك.. فقد انتهت اللعبة قبل أن تبدأ. الساعة تُشير إلى الزمن صِفر.
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
11/03/2017
5538