+ A
A -


«مَن عَزَّ بَزَّ» مقولة جرت مجرى المثل، قائلها عبيد بن الأبرص الشاعر الجاهلي الشهير أحد أصحاب المعلقات، والقول مرتبط بقصة، وإن شئت فقل مرتبط بجريمة شنعاء!
دعك الآن من عبيد بن الأبرص فسيقتحم ساحة الكلام وحده لاحقًا، وتعال نذهب إلى اليمن زمن الجاهلية، نحن الآن هناك والمنذر ابن ماء السماء ملك على القوم، له صديقان حميمان هما خالد بن المضلل وعمرو بن مسعود، جلس الثلاثة ذات ليلة يحتسون الخمر على عادتهم، فسكر المنذر وغضب من مزاح نديميه له، فأمر بهما أن يُقتلا ويدفنا! ولما أصبح سأل عنهما، فأُخبر بما كان منه، فحزن عليهما وأمر أن يُبنى على قبر كل منهما بناء، وجعل لنفسه يومين في السنة يجلس فيهما على القبرين، أحدهما يوم السّعد والآخر يوم التعس، وأول من يطلع عليه يوم السّعد يعطيه مائة ناقة، وأول من يخرج أمامه يوم التعس يقتله، ثم جلس مرة في يوم التعس فكان أول من طلع عليه عبيدالله بن الأبرص فقال له المنذر: أما كان غيرك يا عبيد؟ والله لو أن ابني النعمان خرج إليّ في هذا اليوم لقتلته، فقال له عبيد: أتتكَ بحائن رجلاه أي أتيتُ إلى مصرعي.
ثم قال له: أنشدني من شعرك قبل أن أقتلك! فقال له عبيد: أنساني تهديدك إياي شعري. فقال له: إذن هو القتل، فقال عبيد:
مَن عَزَّ بَزَّ أي من ملك فعل ما شاء فجرت مثلًا، ثم خيره كيف يقتله، فقال عبيد: اسقني من الخمر حتى إذا سكرت اقتلني، فأمر المنذر بالخمر، فجعل عبيد يشرب حتى إذا سكر، قام إليه المنذر فقتله!
الدرس الأول:
الناس في هذه الحياة لا يمشون إلا في دروب أقدارهــــــم، على اتـــــساع الـــــصحراء لا يجد عبيد بن الأبرص إلا مترا فيها يقــــــف المنـــــذر، ذلك أنه منذ الــــبداية كُتب أن هذا قاتل ذاك، لا فرار من الأجل ولا من الرزق، وإن الطمأنينة كلها لخصها سيد الناس: واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك!
الدرس الثاني:
هذه قصة تُريك أية نقلها الإسلام للعرب، لكأنهم كانوا قطيعا مملوكا يختار صاحبه منه ما يذبح وما يترك، دون أن يراجعه أحد، وهي فوق هذا أمة متناحرة، تقتتل على الكلأ والماء، وتفني بعضها بالحروب الطوال، من حرب البسوس إلى داحس والغبراء، تئد البنات وتقطع الرحم إلا قليلا من مكارم الأخلاق جاء سيد الناس ليتمها، ثم لما جاء انظر ما الذي حدث، دم العبد كدم الخليفة، وحرمة الأمة كحرمة الشريفة، الرعاع المتحاربون على التوافه صاروا فاتحين، أكلة الربا وشرّاب الخمر صاروا رهبان ليل، ونحن قوم أعزنا الله بالإسلام.
الدرس الثالث:
من أمن العقوبة أساء الأدب! ما قتل المنذر إلا لأنـــــه علم أن أحدا لن يسأله لماذا قتلتَ، وما وأد أحد ابنته إلا لأنه علم أن أحدا لن يسأله لِمَ وأدتَ، المحاسبة فيها صلاح الراعي وصلاح الرّعية، والقانون الذي يغضّ الطرف عن القوي ويفرض عضلاته على الضعيف ليس قانونا وإنما سوط جلاد على هيئة مرسوم!
الدرس الرابع:
خلق الله الحيوان بغريزة دون عقل، وخلق الإنسان بعقل وغريزة، وعندما يسعى الإنسان لتغييب عقله هو في الحقيقة يتنازل عن الصفة التي تميزه عن الحيوان، لهذا لا تصدقوا أن الخمر مشروب روحي هو في الحقيقة مشروب حيواني بقدر ما تشرب منه بقدر ما يغيب معه عقلك، وأنتَ تخسر من إنسانيتك بقدر ما تخسر من عقلك.
copy short url   نسخ
25/02/2017
12793