+ A
A -
كُثْر هُم عبادُ ربِّك الذين يخشون السكتة القلبية.. لكن على نطاق آخَر تَجِدُ من أصحاب المواهب الأصبعية أولئك الذين يخشون السكتة القلمية.
في مقال سابق من مقالات باب «بين حرفين» قلتُ إن الأصابع ثروة.. واليوم أضيف أن الأصابع ذاكرة.
الأصابع ذاكرة، وهي الناطق الرسمي باسم العقل والقلب.. الأصابع موظف نجيب يجتهد في ترجمة ما يقوله العقل والقلب.
الفكر الطازج نقاربه من خلال وصف الأصابع له.. والقلب الفَيَّاض المشاعر نُعانقه من خلال النقل الأمين الذي تنقله لنا الأصابع..
لكن هل يَقِفُ الأمر عند حدود أَنَفَة الفكر وانسيابية القلب؟
طبعا لا.
والشاهد؟
إنها الأصابع، والكلمة للأصابع.
الأصابع تُرْجُمان، لذلك لا يقتصر دورها على تنويرك ورسم الصورة المشرفة لك عن صاحبها، إنما تتجاوز وظيفتُها ذلك، لأنها قد تتسبب في إهانتك بقدر إهانتها لصاحبها عندما تُقَزِّمُه في عيون الآخرين.
تقزيم الفكر والعاطفة أسوأ ما قد يتعرض له صاحبُ قلمٍ لا تَجِدُ أصابعه الحرارةَ الكافية للتعبير في غياب الفكرة الجديرة بالتعبير عنها، وكذلك في غياب العاطفة المفجرة للإحساس الذي تَصنَع منه الأصابع الدًّرَرَ.
في زمننا الحلزوني (الذي لا يميز بين اللُّبّ والقِشْر) لا تستغرِبْ إن وجدْتَ أن مَنْ يملك المال بوسعه أن يَشتريَ مَن يُجمِّل صورةَ الأصابع في مرآة النقد وفي عيون القُرَّاء الحقيقيين أو الوهميين.
والنتيجة؟ النتيجة قلم بدون حِبر، قلم جافّ نسبة إلى الجفاف الحِبري الذي يبدو أن هناك مَن يعاني منه معاناة شديدة في الظل، معاناة لا يبددها كَمُّ ما يملأ به الأوراقَ.
الجفاف الحبري هو نفسه السكتة القلمية.. غير أن هناك مَن يعترف اعترافاً صريحاً بسكتته هذه من خلال اعتزاله الكتابة الْمُعْلَن أو المفهوم من خلال صمته المطبق، وفي المقابل فإن هناك من لا يعترف.
المشكلة في هؤلاء الذين لا يعترفون بوطأة السكتة القلمية، لذلك فإن ما يترتب عن ذلك يكون وخيما، لأنه لن يعرف كيف يَكتب وماذا يَكتب ولِمَنْ يَكتب، ومع ذلك تَجِدُه يَكتب.
هل هو استعراض للعضلات وكفى؟!
ألا يخجل صاحبُنا هذا من أن يقرأ الآخرون في ما يدعي أنه يكتبه شيئاً واحداً لا يَخْرُج عن مرض ضُمور العضلات الذي يُصيب الكتابةَ فيَسلبها الحياة؟!
هل كل مَن نشر كتباً يُصَوِّرُ له عقلُه أنها مقروءة (وتغابى عن كمية النسخ التي لم يقرأها سوى قِلَّة من الأنصار والمريدين) يرقى إلى مستوى أن يَكتبَ كتابةً غير الكتابة بالقوة؟!
هل أصبحت الكتابة عن البعض موضة العصر بغض النظر عن الأفكار المسروقة واللغة التي فاتَ الواحدَ منهم أن يترحم عليها قبل أن يَفطن إلى أنه قد وارى جثتها بيديه تحت التراب؟!
هذا الذي لا يتوقف عن الكتابة مع أنه لا يَكتب شيئاً لا غرابة أنه يُوَرِّطُ نَفْسَه في عيون قرائه، لأن ما سيَكتبه لاحقاً بعد السكتة (القلمية) سيكون أسوأ ما كتبه في حياته.
كثيراً ما نردد أن الوصول إلى القمة ليس بالأمر الصعب، لكن الصعب بحق هو أن تحافظ على موقعك في القمة.. أن تكون الأول في دفعتك شيء مقدور عليه، لكن ما قد لا تقدر عليه هو أن تظل الأول في دفعتك دائماً.
نشوة النجاح تجعلك ترى العالم بألوان قوس قزح، لكن سقوطَك يُفْضِي إلى حَلَّين لا ثالث لهما: إما الاعتراف بالفشل والبحث لك عن هامش، وإما تجديد المحاولة على اعتبار أن الفشلَ نجاح مُؤَجَّل كما قال صاحب «الفرافير» يوسف إدريس.
أكثر شيء يَقتل الكتابة هو موت الإحساس.. وأكثر شيء يَحكم على كتابتك بالموت هو إحساس مع وقف التنفيذ.
في الكتابة نحن (باعتبارنا قُراء) نتذوق، وبالمثل نَرْشُفُ مع الكاتب من كأسِ نبيذِ حَرْفِه رَشْفَةَ الإحساس.
نؤمن بكتابةِ أيِّ كاتبٍ بقدر ما نُحِسُّ بما يُحِسُّه ويَكتب عنه. نُثَمِّنُ الكاتبَ بقدر ما يُحس بنا. ولا يسقط الكاتب في عيوننا بقدر ما يَضَعنا في اعتباره إحساساً.
عندما يغيبُ ماء الإحساس عن كتابتك سَيُجافيك القارئ.
الكاتب الذي يهمُّه قارئه يخشى السكتةَ القلمية كما يخشى السكتةَ القلبية، لأن قلمه هو القلب الذي يَنبض لقرائه.
لو سكتَ قلمُ الكاتب، لا قَدَّرَ الله، هل سيُعيد الكاتبُ صياغةَ سؤال رولان بارط «من أين نَبدأ»؟!
لا بدايةَ أخرى في انتظاركَ إذا أُصِبْتَ بسكتة قلمية.
ومن تجليات السكتة القلمية السكتة الشعرية التي تشكل وسواساً قهرياً لا يفارقك إذا كنتَ شاعراً كبيراً أو خشيتَ أن يَأخذ غيرُك منصبَ الشاعر رقم «واحد» مع أني لا أؤمن بوجود الشاعر رقم «واحد» ولا بوجود الكاتب رقم «واحد».
الاعتزال، اعتزال الكتابة، أرحم من أن يَنأى عنك قراؤك لما تتنحى أنتَ شيئاً فشيئاً عن دائرة الضوء، فتَخُونك أصابعك ويتضاءل حجمُك.
على الأقل عندما تعتزل ستتوارى أنتَ حقيقةً، لكن تاريخَك الْمُشَرِّف سيَشهد على قامة شامخة لن ينحدر ذوقُها تَكونُها أنتَ.
أصحاب الأصابع الذهبية سيؤكدون حضورَ أقلامهم المحلِّقة إلى أبعد مدى، أما من يكتبون تطفُّلاً فلن يجدوا مِن المطبِّلين والمزمِّرين مَن يَلْحق بـ«كتابتهم» بمجرد أن تتجاوز حدودَ البلد الواحد فتموت قبل أن يَزهد فيها القارئُ..
هنالك لا تنتظر من يُدَبِّج حَرْفَك في اللقاءات الثقافية وحفلات التوقيع إن كان حَرْفُك لا يستحق التكريمَ والاحتفاءَ..
أن تَكتبَ معناه أن تُحِسّ..
الإحساس يَحْضر ويَغيب..
الإحساس يَقْوى ويَضْعُفُ..
الإحساس يَنامُ (بفعل الظروف) ويَستيقظُ (كالبركان الخامد)..
كم من مبدعة وكاتبة متزوجة اضطرَّتْ إلى أن تُطَلِّقَ «القلم والورقة» حتى تتفادى سقوطَ سقف زواجها!
كم من كاتبة خَبَرَت المعاناة في رحلة الحَرف وأَجَّلَتْ زواجَها إلى أَجَلٍ غير مُسَمَّى خَشْيَةَ أن تَحْضرَ ورقةُ طلاقِها قبل أن يَحْضرَ الإلهامُ والنصُّ الغائبُ!
كم من كاتبة اشترَطَتْ عَدَمَ الإنجاب حتى لا تَسرقَ منها الأمومةُ مَجْدَ الحَرف!
وكم من كاتبة قَتَلَها إحساسُها بالحَرف، ذلك الإحساس الذي لم تَجِدْ له تصريفا بعد أن أَرْهَقَتْها قيودُ المسؤوليات الزوجية والأُسَرِية!
وَاهِم مَنْ يتصور أنَّ في وسعه أن يَجمع بين أشياء كثيرة في وقت واحد، فإنْ هو فَعَلَ ذلك تَأَكَّدْ أن القصورَ سَيَحُولُ دون اكتمال شيءٍ يُذْكَرُ من ذلك. حَياتُكَ تُجْبِرُكَ على الكثير من التضحيات، فلن تَنْجَحَ في شيء إلاَّ على حساب أشياء..
اِحْذَرْ مَوْتَ إحساسِكَ! اِحْذَرْ سَكْتَةَ قَلْبِ قَلَمِكَ!
copy short url   نسخ
25/02/2017
5646