+ A
A -
لأن البعضَ يحتفل هذه الأيام بعيد الحُبّ لن أشاركَهم أفراحَهم وأعراسَ قلوبهم التي تُزَفُّ فيها رَبّات الروح إلى آلهة الصَّبَابَة.. سأتضامن مع المتقاعدين عن الحُبّ بوقفة عند عيد إعدام الحُبّ.
وهل ثمة عيد آخَر لإعدام الحُبّ غير الفراق؟!
«قد رأيتُ الكونَ قبرا ضيقا
خَيَّمَ الناس عليه والسكوت
ورأَتْ عيني أكاذيبَ الهوى
واهياتٍ كخيوط العنكبوت
كنتَ ترثي لي وتَدري ألمي
لو رثى للدمع تمثال صَمُوت
عند أقدامك دنيا تَنتهي
وعلى بابك آمال تَموت» (الأطلال).
في كل وقت وحين يتألم مسكين، مسكين أشقاه الحُبّ، الحُبّ الذي طار مع مَن طار، وتدمع عينا حزينٍ، وما حُزنه سوى لرحيل مَن تسكنُه الروحُ ويَشْغل مساحةَ قلبِك وحياتِك.
الفراق حُمّى، حمّى تُلاقيك عاجلا أم آجلا، تُلاقيك لا محالة، ولا مجال لِتَتَمَلَّصَ أنتَ من أن تُغْلِقَ بابَك في وجهها، فهي تَعْرف كيف تتسلل إليك في عُقْر دارِك، بل تتمكن منك لِتُلْهِبَ شغافَ القلب وتعتصر حُشاشَتَه.
«يا غراما كان مني في دمي
قدرا كالموت أو في طعمه
ما قضينا ساعةً في عرسه
وقضينا العمر في مأتمه
ما انتزاعي دمعة من عينه
واغتصابي بسمة من فمه
ليت شعري أين منه مهربي
أين يمضي هارب من دمه» (الأطلال).
ليس من الضروري أن تتحصَّنَ من الحُبّ لتُوقِف زَحْفَ كل طارقٍ لبابِ قلبك حتى يُعفيك الفراقُ من ناره، فنَارُه ستَمْتَحِقُك مهما فررتَ منها، حتى لو أنك أَوْصَدْتَ كل الأبواب والنوافذ فهي حتما تُطاردك، هذا لأنك لن تَسْلم من مكابدة أهوال من سَكَنوا قلبَك من أحِبَّة ليس من الحكمة أن يَرحلوا في صمت، لأن لرحيلهم وقعا ووطأة كلاهما أشدّ هولا وتنكيلا.
يقينا ما مِن بَيت بِسَعَةِ القلب يَخلو من شوكةٍ مازالت تَخِزُ أهلَه كلما لَفحَتْهم حرارةُ الذكريات وأعادت إليهم طيفَ حبيب قد مات. لكن ما نقف عنده مع واحدة من القصائد التي تَذوب حروفُها بين شفتيك هو نوع من الفراق الذي يزلزل كِيانَك على مدار الوقت.
إنه الفراق الذي يتسبب فيه لك نصفُكَ الآخَر الذي يَرحل بجثته خارج نطاق حياتك، بينما يَترك روحَه تعيث فسادا في أرض أحزانك، وكلما خُضْتَ تحديا لنَسْفِه من عالمِك يُجدِّد الالتحامَ بك متى رَمقتَه عابرا بجسده مسافةَ دنياك هنا أو هناكَ، وكلما تَجَدَّدَ اللقاء تَوَلَّدَ المزيد من الشقاء.
«لا رعى الله مساءً قاسيا
قد أراني كل أحلامي سدى
وأراني قلبَ مَن أَعبده
ساخرا من مدمعي سخر العدا
ليت شعري أي أحداث جرتْ
أنزَلَتْ روحَكَ سجنا موصَدا
صدئتْ روحك في غيهبها
وكذا الأرواح يعلوها الصَّدا» (الأطلال).
موعدُنا اليوم مع الشاعر الْمُعَذَّب بِحُبِّه، الحُبّ الذي يجعل الحجرَ ينطق ويَشْعُر شعرا، فما بالك بِذات مُرْهَفة شفافة عَرَفْنَاها في شخصِ شاعرٍ مُلْهَمٍ هو الدكتور إبراهيم ناجي الذي استدرجَه الهوى إلى مَعْبَدِه ليَكتبَ فيه أجمل الأشعار التي تُصَوِّرُ الأطلالَ من ماضٍ رَكضَ رَكْضا وتَرَكَ لنا الظِّلالَ..
والأجمل بحق أن هذه القصيدة الخالدة التي طفقَتْ تَعْبر الحدودَ وتَدخل البيوتَ دون استئذان صَدحَتْ بها واحدة من سيدات الفن والطرب اللواتي أَوْرَقَتْ بهن شجرةُ الزمن الجميل..
كانت تلك هي السخية بصوتها أم كلثوم التي تَلَقَّفَتْ عَذْبَ الكلمات من صاحبها لِتَسْمُوَ بها إلى معارج النَّغَم الأَسْيَان الذي يتسلل مُرْهَفا إلى جذورِ شجرةِ وَردٍ تسمى قلبَ الإنسان..
نتحدث عن العَرَّاف (الطبيب) الذي لم يَشْغلْه التداوي عن تشخيصِ حالةِ قلبٍ هَجَرَتْهُ عصافير الحُبّ وتَرَكَتْ شجرتَه لِتُصْلَبَ عليها دموع العاشق قبل أن يشنقَ نفسَه على غصنها، فيَخْلد مُعَلَّقة عليها روحه..
لَهُمْ عيدُ حُبِّهم يُمَجِّدُونه مرة واحدة في السنة، بينما الاحتفاء الْمُرّ بزمن إعدام الحُبّ يتجدد على مدار لحظات التذكر..
الذاكرة حبل مفتول بعناية يَشنقك شنقا كلما اشتعَلَتْ حقيبةُ الذكريات التي تُطِلُّ منها الصورُ تباعا كما تُطِلُّ أشياؤُك من حقيبة سَفَر..
إعدام الحُبّ هو في حقيقته حُكْمٌ عليك بسَفَر طويل في كينونةٍ مُؤَجَّلة، كينونة قلبٍ يَرفض الاعتراف بوجوده في ظِلِّ إخفاقاتٍ متتالية تُلازِمه ملازَمةَ ظِلِّكَ لك..
«هدأ الليل ولا قلب له
أيها الساهر يَدري حيرتَك
أيها الشاعر خُذْ قيثارتَك
غَنِّ أشجانَك واسكبْ دمعتَك» (الأطلال).
جثة المرحوم (الحُبّ) لا غرابة أن البكاء عليها يستنزف ثروات شواطئ عينيك مقابل ضياع ثروة بحجم نِصفِك الآخَر الذي سَلَوْتَه أو سَلاكَ، لا فرق فالنتيجة واحدة:
«نَضبَ الزيتُ ومصباحي انطفا» (الأطلال).
فعندما يغيب ضوءُ القلب ليس أمامك إلا أن تَحْزَنَ، ولا جدوى من البحث عما إذا كان قد جفّ زيته هو أم زيتك أنتَ.. وما الزيت هنا سوى معادِل للطاقة الْمُوَلِّدة لكهرباء الحُبّ.
كهرباء الحُبّ قوة إيجابية قد تَصْنع أنتَ منها المستحيل إذا أحسَنْتَ استخدامَها، لكن هذه الكهرباء نفسها من السهل أن يُبَدِّدَها الفراق، فإذا بِدَمِ عينيك يُراق..
الفراق حُفْرة تَبْتلع لسانَك في صمت، إن لم تَقْوَ هي على ابتلاع روحِك..
الفراق حُفْرة روحية تُباغِتُك دون إشعار وتُذَكِّرُكَ بالحُفَر الأرضية التي تَبتلع منازل وأجزاء مهمة من طُرُق سيارة وجُسور..
الفراق حُفْرة كبيرة تَشتعل فيها نيران قلبِك، فَتُذَكِّرُكَ على الفور بباب جهنم، تلك الحُفْرة التي مازالت مشتعلة بغاز الميثان إلى يومنا هذا في تركمانستان..
قلبُك جهنم.. يا لبؤس النهاية!
أليس قلبُك، جهنم هذه، هو نفسه الجَنَّة التي أَكَلْتَ من تُفَّاحِها وشَرِبْتَ من مائها الزُّلال على مَدار زمن الحُبّ؟!
حين يُدْميك الفراقُ سَمِّ اللحظةَ عيد إعدام الحُبّ!
تزامنا مع عيد إعدام الحُب اِشْرَبْ نخبَ سقوطك، كيف لا وأنتَ تَمْلأ من الكؤوس ما لم يَصبّه أحد قبلك كما تَصبّه أنتَ من بحر عينيك المالح..
مُدُن الْمِلح التي تَبنيها بطُوب النوى ويُعَمِّرُها قلبُك تجعلك تَكفر بالحُبّ، وتتمنى لو تَطُولُه يَدُ داعش هو الآخَر وتَقْطَع رأسَه كما تَفْعَلُ هي برأس كل كافر (في اعتقادها).
أَلَمْ تمرَّ عليك لحظة شككتَ فيها لوهلة في حقيقة حقيبة المشاعر الْمُدَمِّرَة التي يَحْمِلها الحُبّ؟!
أَلَمْ يكن من الْمُرْبِك لأوراقك أن يتراءى لك الحُبُّ عميلا لأميركا موازاةً مع نَيْلِه منك بِلُؤْم؟!
حتى الحُبّ قد يتحول إلى إرهابي مُتَمَرِّد مُبتغاه الأول والأخير إسقاطُ حُكْم قلبِك وتخريب نظام الإحساس فيه وتدمير قِلاعه وحُصونه..
في صَوْمِ قلبِك عن الحُبّ راحةٌ عظيمة. ولا يُقَدِّرُ الراحةَ إلا الْمُتْعَبُون.
«وإذا ما التامَ جرح
جَدَّ بالتذكار جرحُ
فتعلَّم كيف تنسى
وتعلم كيف تمحو» (إبراهيم ناجي، الأطلال).
أحِبُّوا أنفُسَكُم قبل أنْ تُغامِروا بحُبّ مَن لا تعرفون إن كانوا يستحقون فعلا هذا العطاء السخي وهذه الهِبَة!
تحية لأطلال ناجي.. ففيها ما يُواسي متى مَرَّتْ عليك ذكرى عيد إعدام الحُبّ.
وتَأَكَّدْ أنكَ لَسْتَ الْمُعَذَّبَ الوحيد.. فيَكْفي أن تَذْكُرَ أطلالَ ناجي لِتَقْوى على عُبور نِصْف المسافة على جِسْر النسيان.
copy short url   نسخ
18/02/2017
5949