+ A
A -
«ولا يوم الطين؟!»: قالها المعتمد بن عبَّاد لزوجته اعتماد الرميكية، وللقول قصة طريفة، لابدّ قبل ذكرها أن نتحدث عن شخصياتها، إذ إني أجد أن الإحاطة بأبطال القصة تعين كثيرًا على فهم أبعادها.
المعتمد بن عباد آخر ملوك بني عباد في الأندلس، حكم إشبيلية وقرطبة، اتفق المؤرخون على ارتفاع قدره ودماثة أخلاقه، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، أكتفي بترجمة الذهبي له في سير أعلام النبلاء، فهو من أعلم الرجال بالرجال، قال عنه: كان المعتمد فارسًا شجاعًا، عالمًا وأديبًا، ذكيًا وشاعرًا، محسنًا وجوادًا، كبير الشأن خيراً من أبيه، وكان من أبذل الملوك راحة، وأرحبهم ساحة، وكان بابه محط الرحال وكعبة الآمال... ولأنه لا مُلك غير مُلك الله يدوم زال ملك المعتمد على أيدي المرابطين، ونفوه إلى مراكش في المغرب، وهناك مات، وما زال قبره موجودًا إلى اليوم، أما اعتماد الرميكية، فهي زوجته التي أحبها بجنون، كانت جارية لرميك بن حجاج وله نُسبت، وكانت أول معرفة المعتمد باعتماد أنه خرج يومًا في نزهة برفقة شاعره ابن عمار، ولما وصلا إلى نهر هناك، أنشد المعتمد: «صنع الريح من ماء الزرد» وطلب من شاعره ابن عمار أن يأتي بعجز للبيت، ولكن قريحة الشاعر كانت غائبة وقتذاك فلم يكمل البيت، وكانت اعتماد هناك تغسل ثيابًا لها، فقالت للأمير تكميلًا لبيته: «أي درعٍ لقتالٍ لو جمد» فأعجب المعتمد بشعرها، وأكثر بجمالها، فافتتن بها، فاشتراها من سيدها، ثم جعلها حرة وتزوجها، وعاملها كما تُعامل الملكات، وحدث أن خرج ذات يوم برفقتها في شوارع إشبيلية، فرأت صبية يلعبون بالطين، فاشتهت أن تلعب معهم، فلم يأذن لها لأنه لا يليق بها اللعب في الطرقات، وعندما رأى حزنًا في عينيها، أراد أن يعوضها، فاحضر في باحة قصره كمية كبيرة من الحناء وخلطها بماء الورد والمسك حتى صارت كالطين، ثم نادى عليها وقال لها: الآن العبي بالطين! ثم دارت الأيام وحدثت بينهما مشاحنة، فقالت له: واللهِ ما رأيتُ منكَ خيرًا قط، فقال لها: ولا يوم الطين؟! فخجلت منه، واعتذرت إليه.
الدرس الأول:
المشاكل الزوجية تحصل بين أي زوجين، حصلت بين النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته في حادثة زيادة النفقة الشهيرة، وحدثت بين الملوك وزوجاتهم كما رأينا مع المعتمد، وإن كانت تحدث في الخاصة فعند العامة حدّث ولا حرج، علينا أن نفهم أنها جزء لا يتجزأ من حياة أي زوجين، تفرضها الطباع المختلفة، وضغوط الحياة، وقد تتعجبوا إذ أقول إن لها أثرًا طيبًا، تجعلنا نقول ما لم نقله ساعة الرضا، ونسمع ما لم نسمعه في ساعة الرضا، وهي في حياة الزوجين كالملح في الطعام قليله يُصلحه وكثيره يُفسده! المهم ألا تُنال الكرامات، ولا تُنتهك الحرمات، ولا يُفجر في الخصومة.
الدرس الثاني:
طبيعة المرأة أنها تنسى بسرعة كل الإحسان عند أول غضب، وهذا لا يحتاج إلى كثير برهان، يكفي أن أورد لها شهادة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذا شهد خرس بعده كل شاهد، وإذا قال ضُرب بعده بعرض الحائط كل قائل، وقد قال: كما في البخاري ومسلم: «يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكنّ أكثر أهل النار، فقلنَ: ولم يا رسول الله؟ فقال: تُكثرن اللعن وتُكفرن العشير» وفي رواية أخرى شرح قوله يكفرن العشير «يحسن إليها زوجها دهرًا فإذا غاضبته قالت ما رأيتُ منك خيرًا قط»!
الدرس الثالث:
على الزوج أن يعرف أن نكران زوجته لإحسانه إليها ساعة الغضب إنما هو طبع في النساء ولا شيء شخصياً، ولا يعني أن إحسانه ذهب أدراج الرياح، ولا يعني أن المعروف قد ضاع فيها، إنه مجرد طبع لا تملك المرأة منه فكاكًا، وعلى المرأة ألا تدع هذا الطبع يسيطر عليها، فالطبع الكامن فينا شيء، وإنفاذ الطبع شيء آخر، فالجحود موجع سواء جحود الرجل لفضل المرأة عليه، أو جحود المرأة لفضل الرجل عليها.
copy short url   نسخ
11/02/2017
12526