+ A
A -
«لَذَّتُكَ لا تَتَحَقَّقُ إِلاَّ إذا كان الحَرْفُ راغبا..».
لا تَستهينوا بكاتبٍ يَسْكب حِبْرَ روحه في مَحْبَرَةٍ لِيَكتبَ، أو يَعْتَصِر قلبَه كما تُعتَصَرُ الإسفنجةُ ليُترجِمَ بمداده الأحمر تفاصيل معاناته..
والله والله يؤلمني (حدّ البكاء أحيانا) أن أَتْرك أُمِّي وأَبِي وحيدين على طاولة العشاء أو الغذاء أو الشاي لأمارس طقوس عِشقي للحَرف..
إدمان الحَرف يَكاد يُشَكِّل في حَدِّ ذاته عَصْفا بالحياة الطبيعية وإبادة، لأن إدمانَ الحَرف هو في حقيقة الأمر عبادة..
لن أخرج عن بلاغة الدين وتعاليم العقيدة لِأُشْرِكَ بالواحد المعبود سبحانه لا إله إلا هو، لكن ثِقُوا بأن الكتابةَ عبادة، ولأنها كذلك فهي تَفْرِضُ عليك أن تلتزم بمواعيد لِتُرابِطَ في محرابها..
لكن مهلا، فالكتابة عبادة من نوع آخر، لأنك لا تَضْبط زمنَها على ساعتك. إنها هي الآمرة الناهية، فهي مَنْ يُحَدِّد موعدَ اللقاء، وأنتَ ما عليك إلا التنفيذ..
الكتابة هي مَن يَشْترط المكانَ والزمنَ اللذين لا يليقان دائما بالالتزامات التي تفرضها عليك الحياةُ اليومية من عمل ودراسة وأُنْس عائلي وتَعَلُّمٍ ذاتي وهوايات.. لكنك مع ذلك لا تَجِدُ إلا أن تَنْقاد لها.
الحديث عن الانقياد يَسمح لنا بل يَدفعنا إلى فَتْحِ قوسٍ لِنَضَعَ النُّقَطَ على الحروف ونُمَيِّز بين الصدق والزيف، الحقيقي والصناعي..
كثيرا ما نَسْمَعُ أن الكاتبَ يُخصص لنفسه ساعتين (أو أكثر أو أقل) لِيَنزوي في غرفة خاصة حيث تنتظره أوراق بيضاء على مكتبه، فينبغي عليه خلال الساعتين أن يملأهما قدر الإمكان..
وأتساءل: هل الكاتبُ دجاجة سَتَبِيضُ لنا كُلَّ يومٍ؟!
وهل مَلء صفحاتٍ على مدى ساعتين يُعادِلُ بيضةً؟!
ليس من عادتي أن أَتَرَيَّثَ لتعديل مسار فكرة رائجة، لكن من واجبي (مادُمْتُ عقدْتُ قراني على الحَرف ولم أُنْجِبْ سِوى منه) أن أُصَحِّحَ المفاهيم الخاطئة.
أن تَكتبَ معناه أنك كائن مُسَيَّر، ولن تَفرح بأن تكون لك يوما حرية الاختيار.
الكتابة ليست موعدا تافها تَضْرِبُه لرفيقك في مقهى شبابي لارتشاف فنجانين، الساق على الساق وعيناك هنا وهناك..
الكتابة موعد لذيذ، لذته في أنها هي من تدعوك إلى المكان الذي تحدده هي لا أنت والزمن الذي تُجْبِرُك هي على أن تتفرغ فيه لها أنتَ.
وَاهِم مَن يتصور أن الحرفَ صنبور نَفتحه متى شئنا لِنَدْلُقَ ما شئنا من كميات..
ومخطئ مَن يظنّ أنه سيَربط ربطةَ عنقه نافضا عن بذلته غبارا وهميا وهو يتأهب ليَبلغ مكتبَه ليلتقط فكرة ً يُمَدِّدُها (كما يُمَدِّدُ ساقيه) كمن يتأهَّبُ لِـ «رانديفو» (مَوعِد RENDEZ-VOUS)..
الحَرف سَيِّدُ نفسِه، ولم يَكنْ يوما تابعا.
الحرف هو الذي يقرر متى يَحْضر وأين يحضر..
الحرف يَحْضر بمزاج.. ويَغيب بمزاج..
الحرف هو الذي يُحَدِّدُ مُدَّةَ الزيارة، لذلك عَوِّدْ نفسَك ورَتِّبْ أُمورك على أن تُضَحي بأشياء وأشياء فِدَى الحرف..
لا تَقُلْ لي إنك لم تتذمر يوما من الضيف الثقيل! كل زوارك قد تَفتر رغبتك في أن تُخصص لهم بعضَ الوقت وتنتظر متى عليهم أن يغادروا وتنزعج أنت إذا هم لم يغادروا ولم يفهموا من تلقاء أنفسهم أن عليهم أن يغادروا.. لكن تَذَكَّرْ أن الحرف ضيف عزيز.
الحرف ضيف عزيز، لأنك تنتظره على أحرّ من الجمر، وبمجرد أن يَحْضر هو تنصرف أنتَ عن سواه، ومهما جَلَسْتَ بين يديه لا تَشبع أنتَ..
لأني اخترتُ الكتابة، فإنني أُضَحِّي بكل شيء إلا بها.
يقول لي قُراء: يا لرِقَّة ما تكتبين. أقول: لأنها كتابة صادقة.
أَفْرح لانطباعهم الجميل، لكن بيني وبين نفسي أعترف بأنني أؤدي ضريبةً.
لأنني أكتب فأنا أحترم المواعيد التي يُمْلِيها عليَّ الحَرْف. صحيح أنني رَكَنْتُ جانبا هموم الزوج والأبناء، والآخرون لا يَشغلني أَمْرهم حضروا أم غابوا، لكنني أُضْمِرُ رغبةً جارفة في البكاء كلما أتذكر كم أُقَصِّرُ في حقّ الأُنْسِ بِأُمِّي وأَبِي..
يؤلمني أن أتفرغ للحرف وأُقَصِّر في حقّ صحبة أمي وأبي رغم اجتهاداتي في أن أبقى معهما ما في وسعي..
لكن في المقابل يؤلمني (حين تَفْرِض عليَّ الظروفُ ذلك) أن أتفرغ لشيء آخر على حساب الكتابة وأكاد أبكي بالمثل كأن يَفْرضَ عليَّ واقعُ الحالِ أن أَستقبلَ ضيفا لم يتصلْ هاتفيا ولم يترك إشعارا بمجيئه فيفاجئني ويضعني أمام الأمر الواقع لِيُفْسِدَ علي نشوةَ الارتماء في حضن الكتابة..
مَنْ يُصَنَّفُونَ في خانة الْمُقَرَّبِينَ جدا مني (وهُم قِلَّة) يَعرفون أن طقوسي في الحُبّ خارج التصنيف، فأنا امرأة إذا أَحَبَّتْ أَفْرَطَتْ، بغض النظر عن طبيعة ما أهوى ومَنْ أهوى. الحُبُّ عندي حُبُّ جُنون، لذلك حبي يُشْقيني.
لِكُلّ هذا، لا شيء يُعْفيني من أن أُحِبَّ الكتابةَ حُبَّ جُنون، أُحِبُّها كما يُحَبُّ رَجُل، أُحِبُّها بمنتهى الإخلاص، أُحِبُّها حدّ التماهي، أُحِبُّها إلى درجة الحُلول والتوحد.
حين تَحْضر الكتابة أجعل كل ما/ مَنْ سِواها يَنصرف وينأى ويغيب..
أقوم بأشغال البيت وأنا أهرول بين الفينة والأخرى إلى غرفتي لِأَلْتَقِطَ قَلما ومُذَكرة إن لم تكن يَدايَ مُبَلَّلَتين، أو ألتقط هاتفا من المجموعة التي تجاورني في السرير ليلا ونهارا رغم معرفتي بخطورة أشعتها..
كل هاتفٍ قديمٍ مستقبلُه جوار وسادتي، فالهاتف عمليّ أكثر من الحاسوب لأنه يُشجع على حمله إلى أي مكان ويظل مفتوحا على مدار الوقت ليسهل عملية تخزين الأفكار التي تسقط في لحظات الإلهام..
بهذه الطريقة أَكتُب، ولا أتفق مع أي كاتب يقول إنه يَجرُّ قدميه إلى مكتبه في وقت معين يخصصه يوميا لِيَكتب..
ماذا سيكتب؟!
الكتابة ليست ضَرْبَةَ «سمسم» نَستحضره ليفتح لنا مغارة حروف علي بابا!
الكتابة ليست بئرا تَقْصدها متى شئتَ لِتَدْلُوَ منها ما شئتَ!
كُلُّ حرفٍ يَفقد عفويته وتلقائيته يَغْدو جافا لا ماء فيه ولا نَبض حياةٍ..
كل حرفٍ تُخطط أنتَ لإحضاره عنوةً تَكون حالك معه حال مَن يُغِيرُ على شيءٍ ما كان له أصلا.
كل حرفٍ ما كان لكَ من البداية تَأَكَّدْ أنه ستنقصه الجودةُ وسيَخرج إلى النور دون اكتمالِ صورتِه بما في ذلك من صفات ومَحاور وأجزاء.
رجاءً رجاءً اِنْسَ أمرَ الكتابة، لا تُطارِدْها، دَعْها هي تُطاردك في المكان والزمان الذي تُهَيِّئُ فيه نفسَها لكَ فتَطير إليكَ في أبهى حُلَّة وبكامل زينتها وفتنتها، وما عليك حينها سوى أن تَغْنَمَ غَنيمَتَك وهي تُسَلِّمُ لكَ نفسَها عن طيب خاطر ولْتَتَلَذَّذْ أنتَ يا محظوظ..
وَصْلُ الحَرفِ لَذَّة، لَذَّة كبرى.. ولَذَّتُكَ لا تَتحققُ إلا إذا كان الحَرْفُ راغبا..
صَدِّقُوني.. الكتابة حُبِّي.. حُبّ لذيذ.. الكتابة حُبُّ جُنون.. وحُبِّي جنون..
copy short url   نسخ
11/02/2017
5717